استدارت طاولة كافيه صغيرة جامعةً ثلاثة أصدقاء، واتسعت في أفق بعيداً عن احتفالات رأس السنة، بين ضالة الإنسان في السعادة وسلوك الذات، ومعضلة العلم والعدالة.
أبحر الحديث على الطاولة عبر من يكنى بأبي الكلمة وصانعها لتميزهِ بالجدل اللطيف: ما رأيكم بأن أسوق جدلية تقود إلى تحديد المكان الأكثر متعةً لكما ولأسرتكما في رأس السنة. نظر إليه صديقهُ المهندس مبتسماً، ورد عليه الثالث «الملقب بالحفار بسبب تخصصهُ في الآثار»: تفضل معكم نُساق، ماهي الأحجية، عذراً الجدلية؟.
صانع الكلمة: لماذا نتمنى سنة جديدة سعيدة؟!، أليس من الأفضل والأكثر ضماناً والأعلى سعادةً بأن نتمنى أو نسترجع سنة مستعلمة جميلة وسعيدة كانت!.. المهندس متثاقل الكلام: سنة مستعملة!.
صانع الكلمة: في أيام توارت، احتفظ بذكرى سنة جميلة كنت فيها مشهوراً بالكتابة، أحمل طموحات، أستمتع بمداعبة الجمال من الطبيعية والمشي تحت شمس الأصيل، وعلى لساني مختلف المطاعم، وفي مسمعي الأصوات الغنائية الرخمة والمبحوحة، وعيني ساهرةً بين القراءة ومشاهدة الأفلام، كل ذلك في مدينة أوروبية زادتني مؤانسةً بأن أصبحت متزوجاً وأباً معها..
الحفار بضحكاتهِ: أتبحث عن الجمال..، لقد مضى الوقت، أأصبحت متصابي؟!..
صانع الكلمة مبتسماً: فقط وددت أن أصحبكم إلى صفحات الرزنامة، فالكثير يقول أجمل زماني هو الماضي.. 
المهندس مخاطباً صانع الكلمة: كلما اجتمعنا بك نهذب اللغة والمنطق، هأنت فتحت لي باباً بهذه الجدلية، وشجعتني لطرح أحجية غريبة، ما كنت أصدقها أبداً.. 
الحفار بدهشة ساخرةٍ: أشاهدت جِنّ في بيتك؟. المهندس: حب المناغاة، فالمناغاة لغة جامعة لأطفال العالم لمحاولة التواصل والتعبير، وحب المناغاة صنواً للحب من أول نظرة، لا أسباب منطقية له، فعبر اِرسال نظرات لشخص لا أعرفهُ مسبقاً، أصبحت مُحباً له، وكلما صادفتهُ في مكان العمل، بدأ لساني بالمناغاة، فالكلمات تتآكل حروفها، عندما بحثت عنهُ مع العم قوقل، أخذني التِيه بين الوهم والحقيقة، فالحقيقة الوحيدة هي أن الفروقات لا تباع ولا تشترى بيننا.. 
صانع الكلمة يسحب الكلام: إنه ُفارق العمر، مصطلحكَ وحالتكَ أكدَت على أن العقل ما زال يخفي العجائب والغرائب، أرَاكَ بعد المناغاة ستغني بكلمات وأمنيات الخير والسعادة له ولشبابهِ.. ثم استدار «صانع الكلمة» فاتحاً يديه نحو الحفار: أليس لديك إلا عالم الأموات..
الحفار: لديه الحياة، فربما تتحولان إلى حِيتان، أتابع عن كثب بأن العلم سيتمكن من الدخول والتحكم بالشفرات الجينية قريباً، وسنشهد الشفاء من مختلف الأمراض ومكافحة الشيخوخة وصولاً إلى إطالة أعمار البشرية كالحِيتان..
صانع الكلمة: ولئن تمدد عقل الإنسان بالعلوم والمعرفة، يظل باحثاً عن السعادة، تائهاً في دهاليز عقلهِ، متناقصاً أمام قضايا الفقر والمجاعة وحماية طور الإنسان الأول «الطفولة» في الحياة، حقاً أبحرنا بعيداً، فلو لم أكن مجادلاً لكم، لا كنتم ستلبسون ثياباً من الجمود العاطفي والفكري.. جادل، جادل بلطف وكأنكَ تغني..
كاتب ومحلل سياسي