بلغت الحرب على قطاع غزّة ذروتها من دون أن تحقق إسرائيل الأهداف التي حدّدتها لها، لكنها أسفرت عن حصيلة خسائر بشرية ثقيلة جداً في صفوف المدنيين الفلسطينيين، بالإضافة إلى نزوح عدد كبير من السكان الذين أصبحوا بلا مأوى وبلا مرافق ولا خدمات بسبب الحجم الهائل للدمار. وفي الوقت نفسه لا بد أن مقاتلي «حماس» و«الجهاد» والفصائل الأخرى تعرّضوا لخسائر لم يُعلن عنها أو ربما جرى إيرادها في التعداد العام للضحايا والمفقودين والمصابين. في المقابل، أعلن الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر، أو بتسريبات غير مباشرة، عن خسائره وجرحاه فشككت وسائل الإعلام العبرية في الأعداد المعلنة، معتبرةً أنها فاقت كلَّ الخسائر في الحروب السابقة.
لذلك دعمت معظمُ الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل وقفَ إطلاق النار بسبب ضغوط دولية وعربية تمثّلت بالجهود المبذولة في مجلس الأمن وباستنكار الرأي العام الدولي لقتل الأطفال والنساء، فيما دعت الإدارة الأميركية إلى تغيير مسار الحرب بالتركيز على أهدافها الأمنية والعسكرية. كما أن حاجة الغزيين إلى مساعدات ووجود رهائن عسكريين ومدنيين لدى الفصائل في غزّة شكّلا عنصراً ضاغطاً على المجتمع الدولي وعلى أنصار مواصلة الحرب. فمن جهة صارت المجاعة ومخاطر انتشار الأمراض والأوبئة من النتائج الملموسة لاستمرار الحصار على غزّة، ومن جهة أخرى شغل مصير الرهائن جانباً مهماً من المجتمع الإسرائيلي، تحديداً لأن استعادتهم أحياء ممكنة، فيما أصبح استمرار الحرب خطراً عليهم، إما بالقصف الإسرائيلي المكثف أو بسبب طبيعة المعارك. وقد عنى ذلك أن إدامة القتال تمنع عملياً وصول المساعدات وكذلك تحرير الرهائن، فيما أنها تبقي «القضاء على حماس» هدفاً غير مضمون تحقيقه. 
ويراوح الجدل حالياً بين ثلاثة خيارات: وقف الحرب، الانتقال إلى «المرحلة الثالثة» أو «الحرب الأقل حدّة» بحسب التوصيف الأميركي، و«إطالة الحرب» كما يريد قادة حكوميون وعسكريون إسرائيليون. ويواجه الجيش ومجلس الحرب الإسرائيليان صعوبة في حسم أيٍّ من خيارَي وقف إطلاق النار والانتقال إلى مرحلة مختلفة يجري فيها التركيز على البنى العسكرية لـ«حماس». إذ أن وقف إطلاق النار موضع انقسام داخلي، سواء لأنه يعني إعادة «حماس» ترتيب قواها أو لأنه لا يقترن بإنجازات أقلّها ضمان عدم إطلاق صواريخ من غزّة. أما التحوّل إلى مرحلة «أقلّ حدّة» فتترتّب عليه نتائج ينبغي التعامل معها، وأهمها الإقرار بعدم إمكان تهجير الغزّيين إلى خارج القطاع، وبالتالي القبول بعودة المستشفيات إلى العمل وإعادة تأهيل مرافق المياه والكهرباء، وكذلك محاولة الغزّيين العودة إلى مناطقهم ولو مدمّرة لأن العيش في مخيمات يمنعهم من تنظيم حياتهم.
أخطر ما في إطالة الحرب أنها تحول دون البحث في المستقبل، فالدول الراغبة في المساهمة في تحسين ظروف الحياة للنازحين، كما في إعادة الإعمار، لا تستطيع الاستثمار في المجهول. والمطالبة بأن تسحب إسرائيل قواتها من غزّة توازيها المطالبة بأن لا تعود «حماس» إلى حكم القطاع، وبالتالي فإن حفاظ الطرفين على الوضع الراهن، إما بالقتال أو بمجرّد وقف موقّت لإطلاق النار، من شأنه أن يعطّل أي توافق عربي دولي على خطة لإعادة القطاع إلى الحياة، كما أنه يبقي خطر التهجير من غزّة قائماً، وقد يواكبه تهجير آخر من الضفة الغربية، بما يعنيه ذلك من تهديد للاستقرار في المنطقة وإقصاء لأي بحث في «أفق سياسي» أو في السلام كخيار مستقبلي لا بديل عنه للأطراف جميعاً.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن