أدخلت حرب غزّة وما فيها من مآسٍ إنسانية مجملَ المنطقة في حال تراوح بين القلق والمخاوف والتوتر، سواء بمجرياتها العسكرية في غزّة نفسها من استهداف للمدنيين وتدمير منهجي للعمران والبنى التحتية، أو بتداعياتها على بلدان الجوار الأقرب والأبعد.

ويمكن القول إنها الحرب الأولى من نوعها في المنطقة التي لا تتواجه فيها الدول والجيوش النظامية فيما بينها، بل إن دولاً تحارب مجموعات أو ميليشيات ليست دولاً لكنها تسيطر بشكلٍ أو بآخر على الدول التي توجد فيها بعدما انتهكت كل القوانين وحوّلتها بؤراً مضطربة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولئن اختلفت غزّة موضوعياً وعملياً بسبب قضية الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، فإن حركة «حماس» دفعت بها إلى عملية غير محسوبة فقوبلت إسرائيلياً بحرب غير محسوبةٍ أيضاً وملتبسة الأهداف.

أما المجموعات الميليشياوية فجيّرت تضامنها مع غزّة لحساب مشروع إقليمي دعَمها ويدعمها في تهميش الدول ومضاعفة مكاسبها الداخلية على حساب المؤسسات الشرعية. كان هناك هدفان لجولات وزير الخارجية الأميركي وغيره من المبعوثين الأوروبيين على عواصم المنطقة العربية: البحث في مستقبل غزّة ما بعد الحرب، والسعي إلى منع امتداد الصراع إلى جبهات أخرى.

وقد استُقبل الوزير الزائر بأسئلة بديهية وأحياناً محرجة: كيف يمكن تصوّر الـ«ما بعد» طالما أن الحرب مستمرّة بالتقتيل والتخريب وأن أحداً لا يعرف متى ولا كيف ستنتهي؟ وإذا كان الجانب العربي مستعداً للمساهمة في إعادة إعمار غزّة فلا بدّ أن يتعرّف إلى خريطة الطريق، ليس خريطة المواقف التي تُطلَق هنا وهناك وتُرفق أحياناً بأفعال تناقضها وإنما حقيقة النيات بالنسبة لحلّ القضية الفلسطينية!

قال العرب قولهم في القمة العربية الإسلامية، كما في مجلس الأمن، وما دامت الولايات المتحدة وإسرائيل رافضتين لوقف إطلاق النار وغير قادرتَين على قبول «حماس» أو احتوائها أو نزع سلاحها، فعبثاً تحاولان نقل المشكلة كي يتعامل معها سواهم. وفي المقابل، طالما أن أي طرف عربي ليس منخرطاً في تأجيج الحرب واللعب بتسخين الجبهات وإشعالها أو تهدئتها، فما الذي يحول إذاً دون توسّع نطاق الحرب. العرب لا يلعبون هذه اللعبة لكنهم يناصرون أهل غزّة ولا يبحثون عن مكاسب من الحرب.

أما الجهة أو الجهات التي تقول إنها تتضامن مع غزة فتعني شيئاً آخر وتفاوض لانتزاع مصالح. نجحت الولايات المتحدة حتى الآن في إبقاء جبهة جنوب لبنان- شمال إسرائيل في إطار ما يُسمّى «قواعد اشتباك» رغم تجاوزها من الجانبين واستمرار مخاطر تفجيرها، غير أنها لم تستطع أن تلجم الميليشيات في العراق وسوريا، ثم إنها بادرت مع بريطانيا أخيراً إلى قصف الحوثيين في اليمن بهدف ردعهم، لكن ماذا لو لم يرتدعوا؟ وكذلك لتأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر، لكن هل يساهم التصعيد في ضمان أمن المنطقة؟ لطالما عانت المنطقة العربية من نهج معالجة أي أزمة بأزمة أخرى، ومن اختلاق أوضاع تزيد الأوضاع تعقيداً، وقد شكّل ذلك إخفاقاً مستداماً للديبلوماسية حتى عندما تكون هناك عناصر مواتية لنجاحها.

وما يحدث اليوم أن حرب غزّة لم تُعِد التذكير بالإهمال المزمن لحلّ القضية الفلسطينية فحسب، بل سلّطت الضوء على ضرورات عربية وإقليمية لإيجاد حلول للأزمات في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، فضلاً عن فلسطين. وقد برهنت السوابق على أن ترك هذه الأزمات متفاعلة ومتفاقمة لا يساهم في استقرار المنطقة.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن