كان من الطبيعي والمنطقي أن تقرّر محكمة العدل الدولية، بعد المرافعات الجنوب أفريقية التي سمعتها، أن على إسرائيل أن تتخذ كل الإجراءات والتدابير لمنع حصول إبادة جماعية للفلسطينيين في غزّة. فالأدلّة التي عُرضت أمام المحكمة كانت ممارسات يومية، مرئية ومسموعة، موثّقة في تقارير منظمات الأمم المتحدة، ومستندة إلى تصريحات مسؤولين سياسيين إسرائيليين. وفور صدور القرار الذي دعا لحماية المدنيين وتوفير المساعدات لهم، كانت الخلاصة المباشرة أنه لا يمكن تنفيذه من دون وقف لإطلاق النار، أي من دون قرار بإنهاء الحرب. وهذا ما حاولته دول عدّة، بينها دولة الإمارات، عبر مجلس الأمن، لكن الانقسامات الدولية أحبطته.

الآن، وبعدما أصبح هناك قرار من أعلى مرجع قضائي دولي، دُعي مجلس الأمن إلى أن يحاول مجدداً، لكن هل زالت الانقسامات؟ بالطبع لا، غير أن اعتبارات كثيرة، إنسانية عاجلة وسياسية معقّدة، باتت تفرض ضرورة وقف الحرب، وأهمها إبعاد مخاطر المجاعة والأوبئة عن النازحين، وكذلك حلّ ملف الأسرى. هذه الأهداف تبدو أقل صعوبة من التحدّيات التي تنتظر، إلا أن إطالة الحرب أنذرت أخيراً بأن قنوات التوسّط باتت أيضاً مهدّدة بافتعال خلافات ترمي عملياً إلى تعطيلها، والأخطر أن طول النزاع وسّع رقعة الحرب وطاولت أضراره التجارة العالمية عبر البحر الأحمر ووضعت العلاقات الأميركية العراقية على المحك، كما تسببت بخسائر بشرية في جنوب لبنان، بالإضافة إلى دمار كبير ومساحات زراعية محروقة. كل هذه التطوّرات أسّست لنزاعات أخرى قد تنفجر في أي لحظة لتصبح خارج السيطرة.

والواقع أن الجبهات التي فُتحت جزئياً لمساندة غزّة والتخفيف عنها لم تغيّر شيئاً في واقع المأساة الغزّية، بل ربما ساهمت في مفاقمتها، بل على العكس هزّت الاستقرار الهشّ أصلاً في البلدان المساندة وزادت أوضاع مجتمعاتها بؤساً وتدهوراً. يُنظر إلى طروحات «اليوم التالي» بعد حرب غزّة على أنها ممكنة، بل مُنصفة نظرياً في ما يتعلّق بـ «حلّ الدولتين»، لكن عيبها الرئيسي أنها تستند إلى الركام الهائل في غزّة وليس إلى تجارب إيجابية جرت مراكمتها بين إسرائيل والفلسطينيين طوال العقود الثلاثة الماضية للتوصّل إلى الهدف الذي يصوّر اليوم بأنه الوصفة السحرية. فكلّ ما حصل ساهم في تقويض أسس «حلّ الدولتين» وأصبح تطبيقه أكثر صعوبة مما كان متوقّعاً بموجب اتفاقات أوسلو، وهناك من يعتقد أنه سيتطلب ثلاثة عقود أخرى، مع افتراض انخراط إسرائيل - كما تطلب واشنطن علناً - في صرامة التزامها.

غير أن الواقع تغيّر لدى الإسرائيليين والفلسطينيين قبل حرب غزّة ويزداد تصلّباً بعدها. فمن جهة هناك المتطرّفون الإسرائيليون الذين يرفضون أي تعايش مع الفلسطينيين ويدفعون في اتجاه تهجيرهم متجاهلين معاهدات السلام مع الدول العربية، ومن جهة أخرى هناك الفصائل الفلسطينية المتطرّفة التي تريد مواصلة القتال لتحرير كامل فلسطين في إطار «مشروع إيراني/ إقليمي» ملتبس الأهداف. ومرّة أخرى تجد دول الاعتدال العربي نفسَها أمام وضع جيوسياسي تتظاهر فيه القوى الدولية بأنها تراهن على هذا الاعتدال وتعدّه قوّة دفع إيجابي في المنطقة، لكن هذه الدول لا تلبث أن تركن إلى حساباتها الضيّقة وتتوانى عن أي قرارات شجاعة فتكون النتيجة أن تيارات التطرّف تثبّت أقدامها أكثر. جميلٌ أن يُقال حالياً إن الحلّ في غزّة «لن يكون عسكرياً ولا أمنياً»، أي أن الحلّ سياسي، لكن إثبات ذلك يحتاج إلى إرادة دولية «حسنة النية»، وهذا نادر الحدوث، فالتجارب أظهرت صعوبة التمييز بين مَن يبنون ومَن يهدمون.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن