في إطار عملي ككاتب، يحدث أحياناً أن تعنّ لي فكرة عمود لا يكتب لها النجاح في الأخير.ولكن في أحيان أخرى، انكب على موضوع ما فأصادف مشكلة جد مستعصية لدرجة أنني لا أستطيع أن أصدّق أنه سبق لي أن كتبت عن أي شيء آخر. وهذا ما حدث لي عندما كنت أتأمل البيروقراطية المتزايدة في الحياة الأميركية. فالبيروقراطيات المتزايدة لا تكلّف كثيراً من المال فحسب، ولكنها تُضعف المجتمع الأميركي أيضاً. ذلك أنها تعيد توزيع السلطة فتنقله من العمال إلى واضعي القواعد، وبذلك تستنزف المبادرة والتقدير والإبداع والحافز. والواقع أنك ما أن تنكب على البحث في هذا الموضوع، حتى تذهلك الإحصائيات. ذلك أن أكثر من ثلث تكاليف الرعاية الصحية تذهب إلى الإدارة.

وكما قال خبير الرعاية الصحية ديفيد هيملستين في 2020، فإن «المواطن الأميركي العادي يدفع أكثر من ألفي دولار سنوياً مقابل بيروقراطية عديمة الفائدة». وكل من سبق له أن تعامل مع النظام الطبي يعرف سبب وجود الإداريين هناك، ألا وهو: التنازع والتجادل حول تغطية العلاجات التي يرى الأطباء أن المرضى يحتاجون إليها.

ووفقاً لتقديرات غاري هامل وميشيل زانيني في 2016 في مجلة «هارفارد بيزنس ريفيو»، فإن تضخم البيروقراطية يكلّف أميركا أكثر من 3 تريليونات دولار من الناتج الاقتصادي المفقود كل عام، أي ما يناهز 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقاً لتحليلهما، فإنه يوجد الآن إداري أو مدير واحد لكل 4.7 موظف، يقومون بأشياء من قبيل تصميم دورات تدريبية لمكافحة التحرش، وكتابة بيان رسالة الشركة، وجمع البيانات، وإدارة «الأنظمة». ويُعد هذا الوضع خطيراً بشكل خاص في التعليم العالي. وعلى سبيل المثال، فإن «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» لديه الآن من الموظفين من غير أعضاء هيئة التدريس ما يعادل ثمانية أضعاف عدد موظفي هيئة التدريس.

وفي نظام جامعة كاليفورنيا، تضخّمَ عدد المديرين وكبار المهنيين بـ60 في المئة بين 2004 و2014، في حين لم يزدد عدد أعضاء هيئة التدريس الدائمين سوى بـ8 في المئة فقط. المحافظون يشكون من أن الإداريين المسؤولين عن التنوع والمساواة والإدماج يبثّون في الجامعات الأميركية أيديولوجية خطيرة. وهذا صحيح. ولكن المشكلة الأعظم هي أن هؤلاء العمال ينتمون إلى صفوف الإداريين المتضخمة.

المهمة العامة للإداريين هي الإشراف والسيطرة، وهم يكتسبون السلطة والأمن الوظيفي عبر توظيف مزيد من الأشخاص من أجل العمل معهم وخلق مزيد من الإشراف والسيطرة. والحق أنه في كل مؤسسة تعاملتُ معها، يرغب الإداريون حقاً في خدمة مهمة المؤسسة، غير أن طبيعة مهامهم هي فرض احترام هذه القاعدة أو تلك. أما قوّتهم، فتشبه ما أسمته آني لوري من مجلة «ذي أتلانتيك» بـ«ضريبة الوقت». وإذا سبق لك أن خضت معركة ضد بيروقراطية الرعاية الصحية أو الشركات أو الجامعات، فإنك ستدرك بسرعة أنه ليس لديك وقت، ولهذا سينتهي بك الأمر إلى الاستسلام.

وعلى سبيل المثال، فإن شركة التأمين الصحي الخاصة بي ترفض أحياناً أن تغطّي لأسرتي أشياء تبدو ضرورات بديهية، ولكنني أتغاضى عن ذلك إذا لم يكن الأمر يتعلق بإنفاق كبير بعد أن أخلصُ إلى أن وقتي أكثر قيمة من الدخول في جدالات عقيمة. وكما يحاجج الكاتب الأميركي فيليب هوارد منذ سنوات، فإن المؤسسات الجيدة تمنح الناس السلطة التقديرية للقيام بما هو صحيح وصائب. والحال أن الاتجاه السائد في مؤسسات القطاعين العام والخاص هو كتابة قواعد تحرم الناس من السلطة التقديرية. وبالتالي فالأمر هنا يتعلق بعقليتين مختلفتين.

ومثلما كتب هوارد، فإن «الدراسات تشير إلى أن المشكلة الحقيقية هي أن الأشخاص الذين يفكرون في القواعد لديهم في الواقع قدرة أقل على التفكير في حل المشاكل». فمؤخراً، مثلاً، ألغت شركة طيران عن طريق الخطأ أحد حجوزاتي. فاتصلتُ بخدمة العملاء، ولكن الرجل الموجود على الطرف الآخر من الخط بدا غير قادر حقاًّ على استيعاب فكرة وضعي على رحلة أخرى، لأن القاعدة تقول، إن حجزي غير قابل للاسترداد. فتكوّن لدي شعور بات مألوفاً الآن بالتحدث إلى كومة من الحجارة. هذا الوضع سائد في الحياة الأميركية حيث باتت الطفولة خاضعة للإدارة بشكل كامل الآن. وشخصياً، أعتبرُ نفسي محظوظا لأنني نشأت وترعرعت في وقت كان يسمح فيه الآباء لأطفالهم بالتجول بحرية لاختراع ألعابهم وحل مشاكلهم.

أما اليوم، فإن أنشطة الأطفال باتت خاضعة للإشراف والمراقبة وتهيمن عليها القواعد، بدءا من رياضات السفر إلى فترات الاستراحة. ذلك أن الآباء يخشون أن يتعرض أطفالهم للأذى، ولكن مثلما حاجج جوناثان هايدت وغريغ لوكيانوف، فإنه بسبب إفراطهم في الحماية، يجعل الآباء أطفالهم أكثر هشاشة وأكثر عرضة للأذى.

ومن جانبهم، يصمم طلبة المدارس الثانوية حيواتهم لتتناسب مع المقاييس التي يطلبها مسؤولو القبول في الجامعات. ولكن، ما هي السمات التي تبحث عنها الجامعات الانتقائية؟ إنها تبحث عن الطلبة المستعدين للامتثال للصيغ التي يجترحها حرّاس البوابة. المؤسسات تحاول حماية نفسها من الدعاوى القضائية، لكن الجهاز الإداري بأكمله يأتي بنظرة ضمنية للطبيعة البشرية: أن الناس ضعفاء ويعانون من الهشاشة ومعرضون للخطر وأغبياء نوعاً ما، وهم في حاجة إلى إداريين لإدارة حيواتهم، ويجب تدريبهم على ألا يتخذوا أي مبادرة أبدا خشية السقوط في أنشطة تعتبرها السلطات خارجة عن إطار المسموح به. والنتيجة هي الاستبداد الناعم الذي حذّرنا منه المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل قبل قرون، وهو سلطة «مطلقة، ودقيقة، ومنتظمة، وحكيمة، ومعتدلة». والواقع أن الشعبوية الترامبية تتعلق بأشياء كثيرة، ولكن أحدها هو تمرد أبناء الطبقة العاملة على المسؤولين الإداريين.

إنها تتعلق بأشخاص يريدون أن يعيشوا حياة الحرية والإبداع والحيوية، أشخاص يجدون أنفسهم يعملون في وظائف، ويرسلون أطفالهم إلى المدارس، ويزورون المستشفيات، حيث يواجهون «قوة وصاية هائلة» (حسب تعبير توكفيل) تسعى لتقليصها.

*كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»