هل تتجه القوى العظمى في العالم إلى التأثير والتنافس والهيمنة بالوكالة؟ مصطلح القوى العظمى بات طرحاً أقل واقعيةً، ولربما من مفاهيم الماضي عطفاً على المعطيات والتطورات على الساحة الدولية، وديناميكية العلاقة الدولية، حيث يسعى الجميع إلى توسيع رقعة وبعد ومجال قوته العالمية، ويهتم الباحثون والاستراتيجيون الأمنيون وغير الأمنيين بدورهم بشكل متزايد بفهم تأثير القوى العظمى والصاعدة في جميع أنحاء العالم على النظام العالمي المعاصر، والمتغيرات المتوقع أن تطرأ عليه خلال السنوات القادمة لينصبّ التركيز في المقام الأول على موارد القوة والأنشطة الدولية، وكيفية إيجاد وحصول الدول على النفوذ الدولي والحفاظ عليه.

وفقاً لمعظم الأبحاث والدراسات السابقة، يبدو أن هناك تجاهلاً للحاجة لنظرة شمولية تغطي كل آليات القوة التي تحشدها الدول لإحداث تغيير في سلوك دولة أخرى، وكيف تعمل أنواع مختلفة من الأنشطة على تعبئة مجموعات مختلفة من آليات السلطة والأنشطة التي تحشد الخبرات وآليات الجذب والاعتراف.

وليكون التأثير مستداماً يجب على الدول أن تكون أكثر اهتماماً بآليات القوة بدلاً من مجرد نشر موارد قوتها، وأن تقوم بممارسات ومخططات للتأثير العابر للثقافات والقابل أن يكون جزءاً من حياة المجتمع المؤثر والمجتمع المتأثر في مساحات مستهدفات التأثير، بما أن التأثير يجبر الطرف الآخر على التصرف أو عدم التصرف بنحو وطريقة لا تضر بمصالح المؤثر وأتباع وتقليد ما يقوم به حرفياً في شتى المجالات.

ونسمع دائماً عن تكهنات متزايدة بأن الولايات المتحدة والصين متجهتان إلى إقامة علاقة أكثر تضارباً بينهما من جانب، ومن جانب آخر علاقة القوتين مع باقي القوى وفق موازين القوى ومستوياتها في العالم، وبالتالي اختزل الصراع في تصميم الخارطة العالمية لتوجه ومسار ومجالات التأثير، ومن هي مجموعات وتكتلات التأثير والنفوذ دون الحديث عن آليات تحفيز التغيير في سلوك الحالة أو الموقف الذي قد يتعارض مع طبيعة المصالح المتعلقة بالدول الناشئة في إطار التأثير، ورفض تلك القوى الناشئة أن تكون مجرد وسيلة أو أداة أو طريق معبّد للآخرين. وأيضاً تتنوع وسائل التأثير تاريخياً باستخدام الوسائل المادية والمعنوية ومع مرور الوقت أصبحت أموراً لم يكن يتصورها العقل البشري ضمن أدوات التأثير، بما في ذلك الكوارث والأوبئة التي لم يشكك أحد قط لوقت قريب في كونها طبيعية، ناهيك عن تسخير قوى العلوم والمعرفة لإيقاع التأثير لإجبار الآخرين على الخضوع بل وتكييف العقول بصورة جماعية لتغير قناعاتها وميولها، والعبث بمكونات البيئة الطبيعية للبشر لتهجير أو تجويع أمم بأكملها والقائمة تطول.

ومن يعتقد أن التأثير لم يخرج من أطره التقليدية فقد يكون ضحيةً للتأثير الفكري والشعوري لترسانة أسلحة التأثير وحبيس فقاعة الواقع الوهمي والانتقائي للاعتيادية كمتلقي سلبي للمعرفة والاختراعات الخارقة. فاليوم لم تعد الأصول المادية والفكرية للدولة بما في ذلك قدراتها العسكرية وثرواتها الاقتصادية، وقوتها في المنظمات الدولية وناتجها الثقافي هي فقط أنشطة التأثير التي قد تولد نفوذاً دولياً، بل هناك دور للإبهار والتقدير من خلال نموذج التسويق للتفوق الاجتماعي وتحويل نمط السلوك الاجتماعي - كما هو حادث في عالم وسائل التواصل الاجتماعي.

و يجب أن يدرك المرء انتقال سلوك النوع البشري إلى أبعاد لن تحتاج القوى الكبرى فيها للقوة العسكرية، أو الاقتصادية لفرض هيمنة حقيقية تؤثر على جذور الحياة الاجتماعية، والاقتصادية وكل ما يرتبط بهما، إلى جانب تسخير التكنولوجيا المتقدمة وبرامج التدريب والتعليم والعمليات والنشاطات المشتركة والأنشطة التي تحشد الخبرات وتصنع النجوم وتنمي الجاذبية الحضارية لثقافة ما، والتي من المرجح أن تولد تأثيراً دولياً مستداماً أكثر من الأنشطة التي تعتمد على آليات المكافأة والعقاب، واستخدام القوة والتأثير بالتبادل والربط بين فاعلين في تأثير سببي يُحدث المؤثر عبره تغييراً في سلوك هدفه، ولذلك يعد إضعاف الهوية وتهميش المعتقدات والقيم وتغيير التصورات والمبادئ والتوجهات العامة للشعوب هو جزء كبير من النفوذ الدولي.

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.