لا يُخطئ المتدبر للقرآن الكريم أنّ الزّمن يعرف ضروباً من التّقدم، وأنّ التّقدّم في آياته الكريمة مفهوم إيجابي، على خلاف مفهوم التأخر. قال تعالى (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر/ المدثر:37)، وهي دعوى ظاهرة إلى التّرغيب في سلوك سبيل التقدم وتنكب سُبُل الانحطاط والتّأخر. وتاريخ الأنبياء، في القرآن الكريم، يسجل مسار التقدّم نحو الرشد العقلي، من اللامعقول إلى المعقول، وهو المسار الذي اكتمل مع بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لكن قد يقول قائل: إن مع اكتمال الرشد البشري يبدأ الانحطاط والتقهقر؟
فَنُسائل: أليس كمال الدّين إيذانا بتحرير العقل البشري من أساطيره لينطلق في رحلة علمية يتْبع الأسْبابَ التي دانت بها الأرض لذي القرنين، وإلّا لِمَ حثّ القرآن على طلب العلم في قوله تعالى «وقل ربّ زدني علما»، ولِمَ لَمْ يُحرّم العلمَ المطلق، كما صنع عوامّ الفقهاء من أبناء ملّتنا.
لكن، لِمَ لَمْ نجد للمسلمين كبير اهتمام بالتّقدّم الذي تفصح عنه روح القرآن ويجليه المسار البشري والحضاري، هل يرجع الأمرُ إلى أن المسلمين عاشوا التقدّم ولم يفكروا فيه نظرياً؟ أم سبب ذلك تأثر قوي بالأحاديث التي يُفهم من ظاهرها تقهقر الزّمان وانحطاطه من مثل الحديث الصّحيح (خير القرون قرني ثم الذي يلونهم...)؟ أم بسبب غلبة مفهومي التّقديم والتّأخير على اهتمام المسلمين في النّظر إلى البيان القرآني؟ أم بسبب اهتمام فلاسفة الإسلام بالتقدّم والتأخر بمعنى التّناسب والتّشكيك كما أبرزتُ في مقالة تصدر حديثاً بإذن الله؟
عندما نعود إلى ثقافتنا الدّينية نتساءل: ما معنى الحديث الصحيح الذي يؤكد أنه ما أنزل الله من داء إلا أنزل له الدّواء، أليس هو دليلاً على تقدم العلوم الطبية؟ وما معنى قوله تعالى: (يا معشر الأنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض... لا تنفذون إلا بسلطان/ الرحمن:33) أليس هو دليلاً على إمكانية تقدم العلوم الفلكية وعدم استحالة الإبحار في السماوات؟ قد يقول قائل: النّاس تتقدم في العلوم لكنّها تتأخر في الإيمان والأخلاق.. لكن هل التأخر ضربة؟ لو كان الأمر كذلك، فما الفائدة إذن من بعث المجدّدين على رأس كل مائة سنة، كما في حديث صحيح أبي داود؟ أليس التجديد، الذي بشّر به الحديث النبوي، ضرباً من التقدم النّظري والعملي لقضايا الدّين انطلاقاً من الواقع المتجدد؟ بل أليست تلك دعوة إلى التسلّح بالعلوم الإنسانية لمعرفة الواقع بموضوعية كاملة حتى يمكن أن يَتنزّل عليه الدّين بيسر، خاصة أن من خصائص ديننا السّماحة والرُّخص الصادرة عن الثّقات؟
أسئلة ثارت في ذهني وأنا أستحضر الأوراق البحثية التي عرضها باحثون من مختلف دول المعمورة في المؤتمر الدّولي الثّاني للفلسفة والأخلاق الذي نظّمه مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية في 7 و8 من شهر فبراير الحالي، والتي أشرفتْ على الإحاطة بمفهوم التقدّم كمفهوم التبست معانيه على النّاس، كعادة المفاهيم التي تحمل أثقال الفلسفات المختلفة والمتضاربة، ولعلّ الإشكالات التي بُلْورَتْ، في هذا المؤتمر الناجح، أن تكون حافزاً لأسئلة ذاتية تنبع من صميم ثقافتنا العربية الإسلامية تتعلق بمفهوم التقدّم وتقديم رؤية فلسفية له، فمفهوم التقدّم هو مفهوم «الأمل»، وهو جدير أن يحفر عنه الباحثون الشّباب في ثقافتنا، وأن يُبْرزوه ويُتابعوه، ويُشَرِّحُوه بأقلامهم، ويُقَوّموه بأسئلتهم، تلك من مهام الباحثين في جامعاتنا، وهي المهام الجليلة التي تسمح في تقديري، من داخل ثقافتنا العربية الإسلامية، للتّقدّم أن يتقدّم باستمرار.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية