تعتمد الولايات المتحدة الأميركية بنسبة 80% من صناعتها على إمداداتها من الخارج، وتعتمد بشكل كبير وخاص على الصين وتايوان في المواد المستخدمة لإنتاج البطاريات وأشباه الموصلات والرقائق الدقيقة التي تدخل في صناعة معظم التقنيات المستخدمة بشكل يومي وتعتمد عليها الاتصالات اليومية للأميركيين والدفاع الوطني الأميركي، وما تزال مصانع التصنيع المتقدم في أريزونا وتكساس ترسل رقائقها مرة أخرى إلى المنافسين الجيوسياسيين لاستكمال تصنيعها، بل إن أكثر من 70% من المرافق التي تصنع المكونات المتقدمة التي تعتمد عليها صناعة الأدوية الأميركية تقع في الخارج، بينما تعاني الولايات المتحدة حالياً من نقص في الأدوية أكثر من أي وقت مضى منذ ما يقارب عقداً من الزمن، لتصبح الصين أكبر مزود للولايات المتحدة للعديد من المضادات الحيوية، ومخففات الدم، وأدوية السكري والعلاج الكيميائي، فضلاً عن كونها المصدر الرئيسي للمكونات النشطة في الأدوية المصنَّعة في الهند، ومصدر رئيسي للأدوية الأميركية المستوردة.
منذ أن تولى الرئيس جو بايدن زمام الإدارة الأميركية في أوائل عام 2021، عملت إدارته على محاولة تقليل «التهديد» الذي تشكله هيمنة سلسلة التوريد الصينية على الولايات المتحدة، وخلال أول مئة يوم له في الإدارة، أمر بإجراء تحليل شامل لسلاسل التوريد في أربعة مجالات حيوية تتعلق بأمن الولايات المتحدة واستقرارها الاقتصادي، وهي: أشباه الموصلات، والأدوية، والمعادن المهمة والثمينة، والبطاريات ذات السعة الكبيرة. وكشفت المراجعة أن المعادن المهمة التي تشغل الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الأميركية وجزءاً كبيراً من المكونات النشطة التي تدخل في 120 من الأدوية الأساسية.. تأتي بنسبة كبيرة من الصين. وهذا فضلاً عن اعتماد صناعة السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح الأميركية.. على المصانع الصينية. ومن خلال سعي الرئيس بايدن إلى سد هذه الفجوات في الإمدادات الحيوية فقد لجأ إلى التنسيق مع الاتحاد الأوروبي بشأن سلسلة التوريد والتكنولوجيا، والبيانات، وخصصت إدارتُه المزيدَ من الطاقة لتعزيز التحالفات الاقتصادية في آسيا، وأطلقت الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ الذي يركز بشكل كبير على سلاسل التوريد ودعوة اليابان وكوريا الجنوبية للتعاون في نظام للإنذار المبكر للتنبؤ باضطرابات سلسلة التوريد، والمبادرة بإيجاد حلول دائمة لها. لكن الواقع أن أوروبا لن تصبح مصدراً قوياً للمعادن المهمة أو مورداً قليل التكلفة لمدخلات أشباه الموصلات أو السيارات الكهربائية.
والمفارقة العجيبة في الأزمة الأميركية الحالية هي أن الولايات المتحدة تهمل الحلولَ في بلدان أميركا اللاتينية القريبة جغرافياً لها، وهي منطقة غنية بالمعادن الحيوية التي تحتاجها الولايات المتحدة، وتفشل في إشراكها تجارياً واستراتيجياً، لتضيع بذلك فرصُ تعزيز الأمن القومي وإهدار المزايا الجيوسياسية بها. فهذه الدول تحتوي على 60% من احتياطيات الليثيوم في العالم، و23% من الجرافيت العالم، وأكثر من 15% من المنغنيز والنيكل.. أما المفارقة الأغرب فهي أن الصين تدرك بالفعل إمكانات أميركا اللاتينية وتوسّع تجارتها مع المنطقة من 12 مليار دولار في عام 2000 إلى ما يقارب 500 مليار دولار في عام 2022، فيما تتحرك شركات التعدين والتكرير التابعة لها بغية تأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية في هذه المنطقة!
وأخيراً، قد يكون النفوذ والهيمنة وتكريس القوة كلها ركائز مهمة لنجاح الدولة وقوة تأثيرها، لكنها جميعاً مؤثرات معنوية تتبخر عند أول منعطف اقتصادي حاد، كما حدث في أزمة «كوفيد-19»، لتبقى القوة الحقيقية متمثلةً في الاقتصاد وتوطين الصناعات بأشكالها الدقيقة والثقيلة كافة.

*كاتبة سعودية