للتكنولوجيا تأثير كبير في حياة البشر أفراداً وشعوباً وحكومات ودولاً، فقد اختصرت الزمن وقلَّصت المسافات، وزادت في القدرات والقوى، وأطلعت الإنسانية على جزءٍ غير قليلٍ من المجهول الذي كان يبحث الإنسان عن مضامينه منذ القديم، وأصبحت التكنولوجيا جزءاً لا ينفصل من حياتنا الشخصية والعامة وجعلتنا نشترك مع البشر جميعاً بغض النظر عن المكان والثقافة والمستوى الاجتماعي.
وإنَّ قفزات التكنولوجيا المتسارعة وقد دخلت الآن في مرحلة الذكاء الصناعي الذي سيكون انعكاسُه عميقاً في نفسية الإنسان وتفكيره وجسده وعلاقاته مع أقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، وهذا وغيره لم يكن في تاريخ الإنسانية، وتعددت وجوه هذه القفزات التكنولوجية في الأرض، والفضاء والبحار ظاهرها وباطنها.
لقد ألغت التكنولوجيا المسافات واختصرت الزمن الطويل بثوانٍ معدودات. ووسَّعت قوة شعوبٍ قليلة العدد، أو محدودة المساحة، لتجعل منها ذات تأثير عالمي كبير، ورسَّخت قوة دولٍ كبرى وزادت في هيمنتها وسطوتها، وهيأت إمكانات هائلة للصغار والكبار للإبداع أو التخريب والدمار.
ومن هنا فإن التنامي التكنولوجي هو الرِّهان الحالي والمستقبلي في كوكبنا، وبين الدول والشعوب للفوز بالحضور الدولي والاعتراف بالمكانة العالمية المتقدمة، فالسبق التكنولوجي هو الريَّادة العالمية في الحاضر والمستقبل.
والملاحظ أن المراكز التكنولوجية التقليدية قد بدأت تخفتُ قيمتها، ويقل تأثيرها، نظراً لظهور مراكز جديدة منافسة في جهاتٍ متعددةٍ من العالم، وأصبح التنافس الكبير الآن على العقول المبدعة واجتذابها للإسراع في التفوق التكنولوجي وترسيخ المكانة العالمية، وهذه العقول المبدعة في ميدان التكنولوجيا لم تعد قاصرةً على شعوب معينة أو دولٍ محدَّدةٍ بل أصبح العقل البشري المبدع في طول العالم وعرضه، وبرزت ظاهرةٌ عالميةٌ جديدة، وهي تكوين تكتلاتٍ تكنولوجية تجمع بين قوة العقل المبدعة، وقوة الإمكانات والقدرات المادية التي تدعم العقول، وتوفر البيئة الآمنة لتعمل فيها، وهي آخذة في الاتساع.
لقد كانت التكتلات بين الدول والشعوب في الماضي سياسيةً وأيديولوجية، ثم صارت اقتصادية، وها هي اليوم تتحول لتكتلاتٍ تكنولوجية بما لها من تأثيراتٍ كبيرةٍ في عالم السياسة، وعالم الاقتصاد، لأن التكتلات كلها ستكون تابعة لها بما في ذلك التكتلات المهنية والاجتماعية، لعمق تأثيرها، وبذلك يمكننا أن نعلن أن التكتلات الأيديولوجية بشكلها الماضي قد انتهت، وعلى أساس التكتلات الأيديولوجية والاقتصادية السابقة كانت تُصنَّف الدول والشعوب وعلى أساسها يكون التعامل وأصبح التغير لهذا التصنيف واضحاً جلياً.
وإذا كان ميدان التكنولوجيا غير محدود ويشمل جهات الإنسانية كلها، ويلامسها كذلك كلها، فإنَّ ما يتصدرها اليوم هو التكنولوجيا العسكرية وأدوات السيطرة وما يرتبط بها بشكل مباشر أو غير مباشر، ثم تأتي بعد ذلك تكنولوجيا الرفاهية بواسع معانيها…
والتكنولوجيا تشقّ آفاق المستقبل، لذلك يحق لنا أن نتساءل: إلى أين وجهة هذه التكنولوجيا؟ وما هي سيرورتها؟ وما هي غايتها؟ وما هي محددات إنتاجها وضوابط التعامل معها؟ والأسئلة كثيرة حول مستقبل التكنولوجيا، والواقع أنَّ سرعة التكنولوجيا لا تصاحبها التساؤلات الإنسانية بشكل عام، وتبدأ هذه التساؤلات الإنسانية بالإطار الأخلاقي الذي يرتقي بالإنسان إلى معنى إنسانيته، حتى يصل إلى مدى النفع والإفادة في كثير من منتوجات التكنولوجيا.
إنَّ مسيرة التكنولوجيا اليوم من دون زمام ولا خطام تتدحرج من دون وجهةٍ ولا غايةٍ إنسانية، بل أرقى غايتها الربح المادي بواسع معانيه، وأحياناً تكون من دون أي معنى مفيد للإنسانية، إنها مسيرةٌ عمياء، وتطورات عاصفة، وأصبحت السيطرة عليها بعيدة المنال لتعدد أنواعها وكثرة مراكز إنتاجها وجعلها متاحة للجميع، وخاصة منهم الشبان الصغار الذين لا يعرفون مسؤوليتهم حق المعرفة.
وهنا نتساءل بعمق أين نحن في دولة الإمارات العربية المتحدة من التكنولوجيا ومسيرتها إنتاجاً ووجهةً؟
إنَّ النهضة التكنولوجية في دولة الإمارات العربية المتحدة قد أصبحت مثار تساؤلات لنموذجٍ متميز مع الدهشة والإعجاب بتعدد أنواعها وسرعة التمكُّن منها، وشأنها في ذلك شأن كل التطورات البشرية تبدأ بسيطة ثم ترتقي ولكنها هنا سريعة وراسخة ومتفوقة، وهكذا فخلال فترةٍ وجيزةٍ أصبحت التكنولوجيا الإماراتية تقيم المعارض الكبرى، وتقدم إسهاماتها الوطنية والعالمية تحت عنوان (صُنع في الإمارات).
إنَّ هذا الجهد المبارك قد كان وراءه عقلٌ مبدعٌ وفكرٌ واسع ينظر للإنسان والمجتمع والإنسانية في تدرجٍ وتكاملٍ لا يتجزأ، إنه فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، الذي رعى هذه النهضة، وأعطاها ما تستحق من وقتٍ وتأملٍ وجهدٍ ومالٍ وتشجيعٍ وإبرازٍ ومتابعة، حتى أصبحت هذه الكلمة (صُنع في الإمارات) عالمية الحضور راسخة الثقة في كل البلدان والشعوب، إنها بدأت بتنقية الماء وإنتاج الغذاء إلى الصعود إلى الأفلاك العليا في الفضاء الى ميادين الإبداعات الدقيقة التي لا توجد إلا في دولٍ محدودة جداً.
رئيس الدولة  حفظه الله، وجَّه التكنولوجيا للوطن وإنسانه أولاً، لينتقل به إلى حياة الرفعة والكرامة والرفاهية المطمئنة، ثم انتقل بالتكنولوجيا إلى الوجهة العالمية، ولكنه، حفظه الله، في هذه وتلك وضع أمامها توجيهات سديدة، وثوابت إنسانية رشيدة تتقدم إلى الأمام على بصيرة وهدى، تفيد الإنسان، وترتقي بوجوده في آفاق إنسانيته.
إنها القيم التي لا يمكن أن يستمر الإنسان بمشاعره الإنسانية وتميزه عن المخلوقات الأخرى إلا بها، ولا يتعايش الناس إلا بتأثيرها.
إنَّ فائدة التكنولوجيا لا يمكن أن تتحقق إلا بأن تكون في إطار القيم الإنسانية التي تعلِّم الإنسان الإبداع مع رؤية الهدف، وتعلِّمه التعامل معها من دون إضرار أو أذى، وتعلِّمه استخدام التكنولوجيا في عمارة الأرض، ونشر الأمن والطمأنينة في ربوعها.
وإذا كان صراع التكنولوجيا الآن صراعاً عسكرياً بشكل رئيس، فإنَّ هذا الصراع يتسع، ويتعمَّق، ليشمل الفرد في نفسه والأسرة في بنائها، والمجتمع في ترابطه، بل والبشر جميعاً في علاقاتهم، إننا اليوم على أعتاب صراع التكنولوجيا الشامل، ومن هنا فإن التَّوجيهات القيَميَّة التي وضعها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، منذ أن بدأت النهضة التكنولوجية الإماراتية أصبحت ضرورية، لتحديد وجهة التكنولوجيا وضبط سيرورتها وإذا كانت محاطةً بهذه التوجيهات، فستكون وجهتها مبصرة، وإبداعها هادفاً، وغايتها إنسانيةً نبيلة.
إنَّ خطر التكنولوجيا سيكون أكثر من نفعها إن لم تكن محاطةً بهذه التوجيهات القيمية الإنسانية، ويبدأ هذا الخطر من الصورة الملتقطة بعفوية وبغير عفوية ليتسلَّل ويتناسل ويتسع في كل الجهات والأدوات، حتى يصل إلى خطر الأقمار الصناعية، والمنتجات الكيميائية...
لقد وضع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، هذه التوجيهات بتراتبيَّةٍ بدأت في حياة الأجيال منذ الطفولة عندما رأى أن الإنسان يُصنع في الطفولة، في فكره وسلوكه، ففتح آفاق الإبداع والتكنولوجيا في هذه السن المتقدمة لأجيال الوطن الصاعدة، ولكن وضع معها التربية الأخلاقية التي تحدِّد النظرة إلى هذه التكنولوجيا وارتباطها بالإنسان وارتباط الإنسان بأخيه الإنسان سواءً كان قريباً منه أو بعيداً عنه. 
وإنَّ إصراره، حفظه الله، على التربية القيمية في وقت مبكر عائد لما يستشرفه من مستقبل الإنسان الذي يشهد هذه القفزات التكنولوجية لتحقيق المنافع وتجنب المخاطر.
ثم وسَّع الدائرة، حفظه الله، إلى تعميق قيم الأسرة في ترابطها وتعايشها وحفاظها على تراثها وثقافتها، وكل هذا وطنيُّ المنطلق، إنسانيُّ المحتوى، عالميُّ الآفاق، وإنه، حفظه الله في تأكيده على هذا الجانب ورعايته لمجموعة من التشريعات والأنظمة الأُسرية ليكون الجيل القادم متوازن النَّشأة، سويَّ السُّلوك، مثاليَّ التفكير، جديراً بالبناء والعطاء، كما أنه في ممارساته، حفظه الله، وتواصله مع أبنائه في هذا الوطن يرى الصغار والكبار منه ذلك، فيصبح جزءاً من فكرهم وسلوكهم وحياتهم.
ثم وسَّع دائرة القيم، لتشمل الترابط الاجتماعي والوطني كذلك بعدد من الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تشدُّ رباط المجتمع، وترسِّخ قوة الوطن، فإذا نشأت الأجيال، وهي تنتقل في كلّ مرحلةٍ إلى التي تليها من فتح آفاق التكنولوجيا مع رسوخ القيم الاجتماعية والإنسانية في الضمير والمشاعر والتعامل، فقد ضمنت هذه الأجيال عدم طغيان التكنولوجيا على حياتها، أو التَّصرف فيها بانعكاساتها السلبية وآثارها الخطيرة.
إنَّ من أهم ما يؤكد عليه صاحب السمو، حفظه الله في صياغة الهوية الوطنية هي: تعانق القيم مع الإبداع والتفوق في البعد الوطني والإنساني، ليكون هذا الوطن وأجياله بمأمن من مخاطر قادمة ظهرت في بلاد أخرى وهي في طريق الانتشار بقوة في العالم كله إن لم تجد ما يوجهها الوجهة الصحيحة.
إنّ صراع التكنولوجيا في العقود القادمة سيأخذ أبعاداً جديدةً وخطيرةً في نفس الإنسان وروحه وفكره وسلوكه، وإن الإطار الذي أرساه، حفظه الله، منذ أن بدأت النهضة الإماراتية، حتى لا تكون التكنولوجيا وسيلة الدمار الإنساني، والشقاء البشري، هو نموذج إنساني يمكن أن تتلاقى عليه كل الشعوب والدول.
دولة الإمارات العربية المتحدة قامت على أُسس القيم الإنسانية في عهد القائد المؤسِّس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، وأعلى راية هذه القيم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في كل ميدان، وفي كل زاوية من زوايا الوطن. وهو اليوم ينتقل بالقيم إلى الميدان العالمي في كل مناسبة، وفي كل صعيد، وفي كل لقاء، وإنَّ التأكيد على قيم التكنولوجيا التي يوجه بها رئيس الدولة الإبداع والابتكار أصبحت ضرورة إنسانية ملحَّةً ومستعجلة، فلنرفعْ أصواتنا بهذه القيم، ولنعتزَّ بهذه التوجيهات السامية لصاحب السمو رئيس الدولة، لأنها منارة إنسانية، ودعوة لصيانة مستقبل البشرية. 
ولتُعقد لهذا التوجيه النبيل المؤتمرات، وليلتفَ حوله العقلاء والنبهاء في لقاءاتٍ وحوارات، لتكوين تيارٍ عالمي من فكر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله،، وإشعاع هذا الوطن. حفظ الله صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، رائداً إنسانياً، ونبراساً عالمياً، وحفظ الله هذا الوطن موئلاً للقيم، ومُلهماً للإبداع والتفوق.

المستشار الدكتور/ فاروق محمود حمادة