لو قلت إن الفنان التشكيلي الفرنسي الشهير «كلود مونيه» يحتل مكاناً بارزاً في ذاكرة الفن العالمية، وأن دارسي الفن التشكيلي يصنفونه بأنه واحد من أعظم الفنانيين الذين أثروا في حركة الفن التشكيلي عالمياً، لما احتجَ على كلامي أحدٌ، ولما حاججني فيه أحد! مونيه هو بالفعل «أبٌ عظيم» من آباء الفن التشكيلي ورائد المدرسة الانطباعية التي أصبحت فيما بعد واحدة من المدارس الأساسية في الفن التشكيلي. هذه حقيقة فنية وتاريخية لا جدال فيها، لكن السؤال يبقى: هل هذه الحقيقة نسبية أم مطلقة؟

بمعنى، هل سيبقى «مونيه» فناناً أكبر وأباً رائداً وصاحب المركز الأول لو جمعنا عشرات الآلاف من اللوحات لآلاف الفنانين في عصره من مختلف دول العالم وقيّمناها من منطلقات فنية خالصة من دون أن نعرف أسماء من رسموها؟ هل مكانة مونيه في الذاكرة الفنية العالمية جاءت لأنه الأفضل، أم لأنه فرنسي؟!

أو دعوني أتناول الحديث من الزاوية الأخرى، هل كانت ذاكرة الفن العالمي ستحتفظ بلوحات مونيه، وتضعها في المكانة التي هي فيها اليوم لو كان مواطناً إندونيسياً أو أوغندياً أو جزائرياً مثلاً؟

كلود مونيه فنان عظيم بلا شك، لكن هناك في زاويا العالم ومنعرجاته وطبقاته من هم مثله أو أعظم منه، لكنهم لم يدخلوا سجل عظماء الفن التشكيلي، لأنهم ليسوا من رعايا الثقافة الغالبة. هكذا الأمر بكل بساطة! مونيه أصبح رائداً للمدرسة الانطباعية، لأنه فرنسي فقط، وليس لأنه أفضل من رسم اللوحات الانطباعية! هكذا الأمر بكل بساطة! أبناء الثقافات الغالبة هم الذين يجعل منهم الاتصال وتفريعاته، مرجعاً عالمياً للقياس.

هكذا بكل بساطة! هم أبناء القمة، وما على الآخرين سوى قياس المسافة بينهم وبين أعلى القمة، وليتبارى في ذلك المتنافسون! هكذا بكل بساطة. قيمة الفن ليست في كونه غاية في ذاته، وإنما الإيمان بالثقافة التي يندرج تحتها هذا الفن هو ما يصنع قيمته! مايكل أنجلو أكبر في الذاكرة العالمية من الفنان المُجايل له «سين» في كمبوديا الذي يتفوق عليه إبداعاً، ويفوقه إتقاناً.

وليوناردو دافينشي أعظم أهمية فنية وأكثر احتراماً من الفنان «صاد» الذي يعيش في أفريقيا الوسطى برغم أن موهبة الأخير الفنية تفوق بكثير موهبة دافنشي! لكن لأن أنجلو ودافينشي أبناء للثقافة الغالبة، فقد صاروا هم المرجع، والآخرون خاضعين للقياس!

الثقافة الغربية هي المهيمنة على العالم من أكثر من قرنين، وجميع المجتمعات في شرق العالم وجنوبه مؤمنة بهذه الهيمنة وخاضعة لها، وبالتالي (بالمنطق أعلاه)، فإن مخرجات هذه الثقافة، الفنية والفكرية، هي المرجع الكوني مع بعض الاستثناءات القليلة التي تؤكد القاعدة، ومن أراد من أبناء الشرق والجنوب الموهوبين أن يشارك الغربيين اعتلاء القمة والريادة في ما يُحسن، فليبدأ مشروعه من قلب العالم الغربي، حيث ستتلقفه أذرعة الإعلام، وتُعيد تصديره إلى بلده الأم على أساس أنه منتج غربي خالص! هكذا بكل بساطة.

*كاتب سعودي