ابتليت الأمة العربية والإسلامية على مدى العقود الماضية بظهور ما يسمى «الإسلام السياسي»، وما رافق تمدده من فتاوى وتعليمات وبيانات وخطب متشددة، متعددة ومتنوعة، سعت إلى دعمه ومؤازرته، وكثير منها دعا صراحة وبشكل علني إلى العنف والتشدد والغلظة والتكفير ورفع السلاح في وجه الدولة والمجتمع، في اتهام صريح للحكومات العربية بغية إثارة الشارع وعملاً على تهييجه من خلال الدعوة إلى مقاطعة الغرب أيضاً ومحاربته!

وقد تنادت المجاميع المتطرفة إلى الحرب والقتال في دول عربية وإسلامية عدة، بدءاً من أفغانستان في السبعينيات والثمانينيات وصولاً إلى سوريا وليبيا واليمن في السنوات الأخيرة. وهكذا فقد استطاعات هذه الجماعات، باستخدام خطابات إنشائية مؤدلجة وفقيرة المضمون، استقطاب منتسبين وإشعال حروب واضطرابات سُفكت بسببها دماء كثيرة وأُزهقت أرواح كثيرة.

ومن خلال تلك الخطابات المتهافتة عمل المتأسلمون من أجل تلويث عقول كانت سليمة، واستقطاب شباب أغرار بغية الزج بهم في معركة خاسرة ليس لها أي معنى، وكانت نتيجتها الوحيدة بالنسبة لهؤلاء الشباب أن فُجعت بهم أسرهم حين اكتشفت أنهم راحوا ضحية هذه الأفكار الدخيلة المنحرفة الغريبة على الدين الإسلامي ونهجه وعلى قيم المجتمعات العربية وروحها السلمية المسالمة.

وفي الآونة الأخيرة وقعت الحرب في غزة، وقتل فيها أكثر من 30 ألف شخص، من الرجال والنساء والأطفال، وتم تدمير البيوت والأحياء والقرى والمزارع والمصانع، فضلاً عن تشريد مئات آلاف الأشخاص.. ورغم ذلك لم نسمع صوتاً واحداً من تلك الجماعات المتأسلمة، المتطرفة والإرهابية، ولم تعلن أي منها الحربَ دفاعاً عن الفلسطينيين، أو طلباً لنيل «إحدى الحسنيين» أو للفوز بـ«الحور العين» و«جنان النعيم».. وغير ذلك مما يزعمون أنه مُلك حصري لهم دون سائر الناس، لأنهم أصحاب دين وعقيدة كما يزعمون!

لقد ظلوا يصدّعون رؤوسَنا بخطاباتهم الدينية ومنابرهم الإعلامية وأصواتهم الزاعقة، لكن الآن اختفت وجوههم وصمتت أصواتهم أمام هذا الحدث الكبير الذي شغل ويشغل العالمَ كلَّه بمآسيه وكوارثه.. فأين ادعاءاتهم الكثيرة التي تتلاشي في لحظات الحقيقة حيث يتحولون إلى طيور سلام ومحبة يطوقها الصمتُ والهدوءُ والسكينةُ على خلاف عادتهم في الصراخ والتهديد ومحاولة الظهور بمظاهر الشجاعة والبأس والشكيمة؟!

إنهم يختفون خلفَ أقنعة تمليها أجنداتهم غير المعلنة، التي يأتمرون فيها بأوامر مموليهم وينصاعون لها كما هو الحال في كل الأزمات التي كانوا سبباً فيها، ليحولوا منابرَهم وفتاواهم إلى النصح والموعظة، وحين تستقر أمور المنطقة وتبدأ تتعافى من جراحها وأزماتها لكي تتفرغ للتنمية والنهضة والإعمار، تثور ثائرتهم من جديد، ويتحولون إلى معول هدم للبلدان والمجتمعات، فيشرعون مجدداً في ممارسة العنف والتكفير والإرهاب، انتقاماً من أبناء جلدتهم، إذ يبدؤون القتلَ والدعوة إلى القتل، وهذا ديدنهم، وقد شوهوا الدين الإسلامي السمح سواء بخبثهم ولؤمهم وأجنداتهم المشبوهة أو بجهلهم وغبائهم، ليحرفوا مسار الأوطان ويخربوا أمنَها واقتصادَها ويشوهوا هويتَها الوطنية!

*كاتب سعودي