عندما ننظر إلى العلاقة بين المدينة والإنسان لا بدَّ أن تكون رؤيتنا متكئة على فرضية أخلاقية مهمة، هي أن دور المدينة يتمثل في تحقيق طموحات ساكنيها من الحياة بكل مفرداتها. واليوم يعيش أكثر من نصف سكان العالم في المدن، وهو رقم يُتوقَّع أن يرتفع إلى الثلثين بحلول عام 2050، وفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
وتماشياً مع التركيز على التنمية المستدامة، وتحقيقاً لأهدافها، ظهرت الحاجة إلى إجراء تحول في التخطيط العمراني للمدن، والتركيز على الإنسان، وإعادة إضفاء الطابع الإنساني على المدن من أجل جعلها أكثر شمولاً، وأماناً، ومرونةً، واستدامةً، مع مراعاة أن يكون ذلك متسقاً مع الثقافات المحلية للمجتمعات؛ ولذلك ظهر في السنوات الأخيرة مفهوم «أنسنة المدن»، الذي يُعنى به تحسين مستوى الحياة في المدن بطُرق تركز على البعد الإنساني في التخطيط والتطوير العمراني، حتى يمكن الوصول إلى مختلف زوايا المدن، وتوفر مساحات للمشي، وتكون آمنة، ومريحة، وقابلة للعيش فيها، وشاملة، وتحقق سهولة العلاقات المجتمعية بين سكانها.
ومن هنا تبرز العلاقة بين أنسنة المدن وأمن المجتمع، التي تبدو عميقة، ومرتبطة ارتباطاً كليّاً وشاملاً؛ وهي -من وجهة نظري- علاقة دائرية؛ فكلاهما يبني على مخرجات الآخر؛ ذلك أن أنسنة المدن تسهم في تحسين جودة الحياة للسكان، وهذا عنصر مهم في تحقيق الأمن المجتمعي؛ فكلما شعر الإنسان بالأمن داخل المجتمع، أسهم في تحقيق الرفاهية والسعادة للآخرين، وهذا ينعكس على تعميق أثر أنسنة المدن في تحقيق الهدف الرئيسي لها، الذي هو في الوقت نفسه هدف رئيسي للأمن المجتمعي، وهو الإنسان، وتهيئة أفضل بيئة معيشية له.
ومن أهم أركان أنسنة المدن مراعاة الجوانب الاجتماعية والثقافية والبيئية، بحيث تتجاوز مفهوم التخطيط العمراني فقط؛ وأهمُّ هذه الجوانب العمل على تعزيز التفاعل الاجتماعي، بإنشاء المساحات العامة المفتوحة، والحدائق التي تعمل كأنها نقاط تجمع للأنشطة الجماعية والفعاليات المحلية؛ ما يسهم في تقوية الروابط المجتمعية. ويتمثَّل جانب آخر في الحفاظ على الهوية الثقافية عن طريق الحرص على إظهار العناصر الثقافية والتراثية في تصميم المدينة، وجميع جوانبها، وهذا يعمّق الهوية الوطنية للمجتمع، ويزيد شعور الإنسان بالاعتزاز بتاريخه وهويته.
ولو نظرنا إلى الجانب الاقتصادي لأنسنة المدن -وهو جانب مهم- لرأينا أنها لا تعود بالفائدة على السكان فقط، بل على الاقتصاد المحلي والوطني أيضاً؛ نظراً إلى دورها في تعزيز السياحة، وجذب الاستثمارات، وتحسين الإنتاجية، وتشجيع الابتكار، وتعزيز الاستدامة الاقتصادية. 
وغالبًا ما تكون المدن، التي تركز على البُعد الإنساني، أكثر جاذبية للسياح؛ ذلك أن تحسين البيئة الحضرية، والحفاظ على المعالم التاريخية، وإنشاء مساحات عامة جذابة، عوامل يمكن أن تزيد عدد السياح؛ ما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي؛ وكذلك يفضّل المستثمرون والشركات الاستثمار في مناطق توفر بيئة حياة جيدة؛ وهو ما يساعد على تعزيز النمو الاقتصادي، ويضمن بيئة صالحة للتسويق؛ كما أن أنسنة المدن تسهم بصورة فاعلة في تحسين الحالة النفسية والمزاجية لأفراد المجتمع؛ ما ينعكس على إنتاجيتهم بطريقة إيجابية، ويدعم الابتكار والإبداع؛ وهذه كلها عوامل تساعد على تنمية الاقتصاد الوطني وتعزيزه بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
وأيًّا يكن الأمر؛ فإن أنسنة المدن تواجه عدداً من التحديات، من أهمها مقاومة الإنسان للتغيير؛ فالإنسان يميل دائماً إلى البقاء في منطقة راحته، وقد يقاوم أي خطط عمرانية جديدة تغير مفردات ما يحيط به، وهذا تحدٍّ مرتبط بمدى نمو الوعي عند المجتمع. ويوجَد تحدٍّ آخر يتصل بالتوازن بين تحقيق الاستدامة البيئية والنمو الاقتصادي، إلى جانب تحدي تحقيق التوازن بين الحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية للمدن، والمعاصرة وإعادة التخطيط لتحقيق الأنسنة.
ومنذ أن بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة حداثتها رسخ في يقين القيادة أن الهدف الأهم هو الإنسان، وتحقيق جودة حياة عالية له، وقد انعكس ذلك على تخطيط المدن بأساليب حديثة وضعت نموذجاً لأنسنة المدن حتى قبل أن يظهر هذا المفهوم على الساحة وتُناقَش معانيه؛ فحين ننظر إلى المدن الكبرى في دولة الإمارات، نجد أن أبوظبي ودبي قد بُني تخطيطهما على أساس تحقيق أنسنة حقيقية؛ وحين ننظر إلى مدينة العين نجدها نموذجاً لمفهوم أنسنة المدن، وخاصة في ظل حفاظها على طراز تخطيط عمراني خاص يقوم على فكرة التوسع الأفقي مع انتشار المساحات الخضراء التي تغطي كل أركان المدينة، وتوفر كل ما يسهم في تحقيق جودة حياة كبيرة لسكانها، مُقدِّمةً نموذجاً فريداً لأنسنة المدن. وتواصِل دولة الإمارات حاليّاً السير في طريق تطوير المدن ودمج الذكاء الاصطناعي والقدرات التقنية من أجل رفع مستوى رفاهية الإنسان في المدن الإماراتية.
إن أنسنة المدن ليست مجرد مفهوم حديث، بل هي قاعدة أخلاقية تُبنى عليها أهداف تحقيق التماسك، والأمن المجتمعي، ورفاهية الإنسان، في دولة الإمارات العربية المتحدة.
*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي