ليست مجرد خلافات نمطية تلك التي تصاعدت، وما زالت، بين الولايات المتحدة وروسيا في مجلس الأمن منذ أن بدأ أعضاؤه في مُناقشة قضية حرب غزة. هذا نموذج للحرب الديبلوماسية كما نعرفُها في أدبيات العلاقات الدولية. لكن الجديد فيها أنها تدورُ وجهاً لوجه، إذ لا يفصلُ بين مقعدي المندوبة الأميركية والمندوب الروسي سوى أمتار قليلة. ولهذا يبدو المشهدُ كما لو أنه «حلبة مبارزة» بين ممثلي قوتين دوليتين كبيرتين. مبارزة دبلوماسية مُمتدة لأكثر من خمسة أشهر. وكان الاختراقُ الذي حدث في 25 مارس الماضي بإصدار القرار 2728 آخرَ جولاتها وأكثرَها إثارة، لا سيما أنه أُصدر بعد أن أحبط الطرفان تسعة مشاريع قبله. فقد استخدم كلٌّ منهما حقَّ النقض (الفيتو) لإجهاض المشاريع التي تبناها أو دعمها الثاني. وتبادلا انتقاداتٍ حادةً لا تخلو من كلمات قاسية.
ولهذا لم يكن مُتوقعاً حدوثُ انفراجٍ أو اختراق عندما تبنّت واشنطن في 22 مارس مشروعاً يتضمنُ عباراتٍ حمَّالةَ أوجهٍ تقبلُ تفسيراتٍ متباينةً، ولا يدعو إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار. فقد أشهر المندوبُ الروسي سلاحَ «الفيتو» ضد المشروع، وانضم إليه مندوبُ الصين، فوجدت إدارةُ الرئيس بايدن نفسَها في وضعٍ حرجٍ دولياً، وداخلياً أيضاً بعد أن طالب الرئيسُ السابق والمرشحُ الرئاسي الحالي ترامب بإنهاء الحرب لإعادة فتح الطريق أمام السلام في المنطقة. ولعل هذا ما دفع وزير الخارجية الأميركي إلى وصف موقف روسيا والصين بـ«المراوغ».
قرأتْ دولٌ غير دائمة العضوية في المجلس الموقف الأميركي، فأسرعت في اليوم التالي إلى تقديم مشروعٍ مُعدَّلٍ يتضمنُ دعوةً إلى وقف فوري لإطلاق النار حتى آخر شهر رمضان. وحمل المشروعُ توقيعات مندوبي الدول العشر، وقدّمه باسمها مندوبُ الموزمبيق. وعندها لم تجد واشنطن بُدَّاً من السماح بتمرير المشروع هذه المرة عبر الامتناع عن التصويت.
لكن الحرب الديبلوماسية لم تضع أوزارَها بإصدار القرار 2728. حاولت المندوبةُ الأميركيةُ تخفيفَ وقعِه على حكومة إسرائيل التي أغضبها إصدارُه، ووصفه وزيرُ خارجيتها بأنه عارٌ على المجلس، ولهذا قالت المندوبة، إن القرارَ غير مُلزم. ورغم أن موسكو لم تكن في حاجةٍ إلى الرد، لأن آخرين أغنوها عنه، وبينهم مندوبة بريطانيا في المجلس، فقد أرادت مواصلةَ الحرب الديبلوماسية وتوجيهها باتجاه تحديد طبيعة القرار الذي أُصدر تحت الفصل السادس وليس السابع، عبر توضيح ما يعرفُه دارسو المنظمة الدولية. فالفرقُ ليس في الإلزام بحد ذاته، بل فيما يترتب على عدم الالتزام. فقراراتُ الفصل السادس مُلزمةٌ، بمعنى أن عدم الامتثال لها يُعدُ انتهاكاً للمادة 25 من الميثاق ويُمكنُ في بعض الحالات أن تترتب عليه عواقب، لكنها لا تشملُ استخدام القوة العسكرية.
وهكذا فبالرغم من تعدد الساحات التي يدورُ فيها الصراعُ الأميركي الروسي المُتصاعدُ منذ بداية حرب أوكرانيا، فإن المواجهةُ بينهما في مجلس الأمن، منذ نشوب حرب غزة، تتسم بأهميةٍ خاصة، لأنها نموذجٌ يُتوقعُ أن يُدرس دراسةً مُعَّمقةً من جانب المهتمين بالحروب الديبلوماسية في العالم.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية