تعتبر السوق الموازية غير القانونية من أسوأ التحديات التي تواجه الأوضاع الاقتصادية في الدول، إذ تنجم عنها تداعيات وخسائر جسيمة، مما قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي وأزمات اجتماعية تهدد الاستقرارَ والأمنَ وتُحدث تغيرات سياسية عنيفة. ويسهم وجود هذه السوق، إلى جانب التهرب الضريبي وعدم تحصيل ضرائب المبيعات، في فقدان الخزينة العامة عائداتٍ كبيرةً، مما يؤدي إلى ارتفاع عجز الموازنة السنوية وتقليص الإنفاق العام والذي يلحق بدوره أضراراً بالخدمات العمومية وبدعم السلع الأساسية. كما يؤدي إلى تدهور سريع في سعر العملة الوطنية، والتي قد تنهار إذا ما استمرت الأزمات دون وضع حد لها، مما يثير موجات تذمر واحتجاجات اجتماعية.
والموضوع الأخطر في هذا الجانب يكمن في صعوبة محاربة «اقتصاد الظل»، فالأمر يشبه رواية «دون كيخوت» للروائي الإسباني «ميغيل دي سيرفانتس»، أي محاربة طواحين الهواء، فمن يدير العمليات الهائلة في السوق السوداء، هم أشباح وعصابات منظمة مدعومون بقوى أخرى تملك قدرات مالية هائلة لتحقيق مكاسب سياسية وأرباح كبيرة على حساب الخزينة العامة ومواردها المالية.
وينجم عن ذلك تفاوتٌ كبيرٌ بين سعرَيْ العملة في السوق الرسمية والسوق الموازية، مما يضطر الدول أحياناً إلى تعويم عملتها الوطنية، مع ما يترتب على ذلك من صعوبات تتطلب تقويةَ المركز المالي ودعمه باحتياطيات نقدية إضافية لتفادي أوضاع مالية معقدة وضارة.
لذا، فإن ترك الأمور على عواهنها يشكل خطراً لا يمكن التنبؤ بعواقبه وتداعياته، مما يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف التدهور الاقتصادي والاجتماعي، وبالأخص في البلدان العربية التي طالها «الربيع العربي» وفشل في تحقيق أهدافه المدمرة خلال جولته الأولى.
وبما أن الدول تحارب «طواحين الهواء»، أي القوى المتخفية بستائر سميكة، فإن الحلول لا بد وأن تكون جذرية وقوية وتستند إلى أرضية من السياسات الصحيحة، لا سيما في مواجهة الفساد الذي يعتبر أكبر داعم للسوق السوداء، بل هو شريان الحياة لاستمرارها وازدهارها وتمددها، ومن ثم لتعمق الأزمات الاقتصادية والمعيشية.
وهنا نأتي إلى مسألة مهمة تتعلق بالسياسات الاقتصادية، فهذه السياسات إما أن تؤدي إلى زيادة حدة الأزمة وتسهم في تعزيز اقتصاد الظل في حالة اتخاذ قرارات خاطئة، أو تؤدي إلى محاصرة المتعاملين في هذه السوق وتقليص نشاطهم إلى الحد الأدنى، متى ما كانت هذه السياسات الاقتصادية صائبة في توجهاتها.
وفي هذا الجانب يتعين الابتعاد عن الوصفات الجاهزة الصالحة لكل زمان ومكان، التي تقترحها بعض المؤسسات الدولية! فلكل دولة أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وقدراتها المالية الخاصة بها، مما يعني أنه يمكن معالجة أوضاع كل دولة وفقاً لهذه القدرات والخروج بالحلول التي تناسبها، إذ يمكن أن تقدم تجربة ماليزيا مثالاً حياً للخروج من الأزمة بعد أن عانت في تسعينيات القرن الماضي من أوضاع مالية صعبة تمكنت من معالجتها بعيداً عن الوصفات الجاهزة وبناء تجربة تنموية ناجحة.
لذا، فالمخرَج لتفادي مثل هذه الأزمات يكمن في السياسات الاقتصادية ومدى صدقية تطبيقها، بحيث تصبح التعاملات في السوق الموازية مكلفةً جداً وغير مجدية تجارياً، على أن يصاحب ذلك القيامُ بحملة لمحاربة المتعاملين في السوق غير الرسمية واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم بعد تشديد العقوبات الخاصة بذلك.
واللافت للنظر هو تزامن العديد من الأحداث السياسية في المنطقة مع انتشار وتوسع التعاملات الموازية في بعض الدول العربية التي استطاعت النجاة من خراب «الربيع العربي» في مرحلته «أ». فهل تمثل التوجهات الرامية إلى التوسع في السوق الموازية، وبالأخص إضعاف العملة وما يترتب عليه من تداعيات، محاولة لمواجهة المرحلة «ب» من هذا «الربيع» المدمر؟

*خبير ومستشار اقتصادي