في عام 1978، ألقى المنشق الروسي «ألكسندر سولجينتسين» خطاباً في جامعة هارفارد، حذّرنا فيه من فقدان الثقة بالنفس والإرادة الأميركية. وأعلن أن «تراجع الشجاعة قد يكون السمة الأكثر لفتاً للانتباه التي يلاحظها مراقب خارجي في الغرب اليوم».
واليوم، تتردد تلك الكلمات بقوة مثيرة للقلق. يبدو أن أعداء الديمقراطية الليبرالية ممتلئون بالحماس الشديد - فلاديمير بوتين، وشي جين بينج، ودونالد ترامب، والمتطرفون في الحرم الجامعي. وفي الوقت نفسه، قد يبدو أولئك الذين يحاولون الدفاع عن المعايير الليبرالية في بعض الأحيان مثل بعض هؤلاء «الجمهوريين»، الذين خاضوا الانتخابات التمهيدية ضد ترامب في عام 2016 - لائقون وجيدون، لكنهم ضعفاء نوعاً ما وعلى وشك أن يتم دهسهم.
في ظل هذا المناخ يظهر كتاب «فريد زكريا» الجديد بعنوان «عصر الثورات: التقدم ورد الفعل العنيف من عام 1600 إلى الوقت الحاضر». إحدى السمات القوية لهذا الكتاب هي أن زكريا لا يتعامل مع الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية باعتبارها مجموعة من الأفكار المجردة. إنه يوضح كيف تم إنشاؤها من قبل أشخاص حقيقيين في مجتمعات حقيقية أرادوا حياة أكثر ثراءً وأكثر شمولية وأكثر ديناميكية.
تبدأ قصته في الجمهورية الهولندية في القرن 16، عندما اخترع الهولنديون الشركة الحديثة الهادفة للربح. كان الأسطول التجاري الهولندي قادراً على حمل حمولة أكبر من أساطيل فرنسا وإنجلترا واسكتلندا والإمبراطورية الرومانية المقدسة وإسبانيا والبرتغال مجتمعة. وبحلول القرن 18، كان دخل الفرد في أمستردام أربعة أضعاف نظيره في باريس.
لم يكن النجاح الهولندي اقتصادياً فحسب. كان هناك ازدهار ثقافي (الرسامان رامبرانت ، فيرمير)، وتحضر – بناء البلدات والمدن الكبرى، واستقرار مدني وسياسي مبني على السلطة اللامركزية. وكانت هناك أيضاً ثقافة مساواة نسبياً. وكان هناك أيضاً ضبط النفس الأخلاقي. وكانت الكالفينية (مذهب مسيحي بروتستانتي) الهولندية في حالة تأهب قصوى تحسباً للفساد الذي قد يجلبه الازدهار. لقد شجعت الانضباط الذاتي والقواعد التي تضع حدوداً لاستعراض الثروة.

وحدثت الطفرة الليبرالية التالية في بريطانيا. ففي الثورة المجيدة في أواخر ثمانينيات القرن 17، أصبح الهولندي «ويليام أوف أورانج» ملكاً على إنجلترا وساعد في جلب بعض المؤسسات السياسية الهولندية الأكثر ليبرالية، إيذاناً بفترة من الاعتدال السياسي والديني الأكبر. ومرة أخرى، ترى نفس النمط: تسير الديناميكية التقنية والاقتصادية جنباً إلى جنب مع الإبداع الثقافي، والإصلاح السياسي، والتحضر، والإحياء الأخلاقي، والتوسع الإمبريالي الواسع.
لقد أتقن المخترعون والمصلحون البريطانيون، مثل «جيمس وات»، المحرك البخاري. وفي الفترة من 1770 إلى 1870 ارتفعت الأجور البريطانية الحقيقية بنسبة 50%، وعلى مدى النصف الأول من القرن 19 ارتفع متوسط العمر المتوقع في البريطاني بنحو 3.5 سنة.
أعطت الإصلاحات العظيمة في القرن 19 المزيد من الناس حق التصويت وقللت من الفساد السياسي. على سبيل المثال، كان صعود طائفة «كلافام» الإنجيلية في أوائل القرن 19 جزءاً من مجموعة واسعة من الحركات الاجتماعية التي قادها أشخاص سعوا إلى إلغاء تجارة العبيد، والحد من عمالة الأطفال، وإصلاح نظام السجون، والحد من القسوة على الحيوانات، وتسهيل حياة الفقراء وإدخال قواعد اللياقة في الحياة الفيكتورية. وكانت أميركا هي الخطوة التالية، حيث تكرر نفس النمط: اختراعات جديدة مثل الهاتف والمصباح الكهربائي، وتدفق الناس إلى المدن. وخلال القرن 20، هيمنت الثقافة الأميركية على العالم. وبفضل النظام الليبرالي الأميركي في فترة ما بعد الحرب، ارتفعت مستويات المعيشة جزئياً. وكما يشير زكريا: «مقارنة بعام 1980، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي تقريباً بحلول عام 2000، وأكثر من ثلاثة أضعاف بحلول عام 2015».
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل فوائدها، فإن الليبرالية متداعية وتتراجع في أماكن مثل تركيا والهند والبرازيل، وفي أميركا نفسها، إذا فاز ترامب في عام 2024. لقد ساعدني كتاب زكريا على تطوير تقدير أقوى لأمجاد الليبرالية، وكذلك فهم أفضل لما حدث من أخطاء.
أنا واحد من هؤلاء الأشخاص الذين يؤيدون مبدأ الطبيب النفسي النمساوي «فيكتور فرانكل»: «إن بحث الإنسان عن المعنى هو الدافع الأساسي في حياته». لكي يشعر الناس بأنهم في بيتهم في هذا العالم، يحتاجون إلى رؤية أنفسهم وهم يقومون بأعمال خيرة، مثل القيام بعمل مهم، ومحبة الآخرين بصدق، والعيش داخل مجتمعات أخلاقية متماسكة، والدفاع عن المثل العليا.
إن المجتمعات الليبرالية العظيمة التي يصفها زكريا توسعت واحتفلت بحرية الفرد. ولكن عندما ازدهرت الليبرالية، كانت تلك الحرية الشخصية تقوم على أساس من الالتزامات الأخلاقية التي تسبق الاختيار: التزاماتنا تجاه عائلاتنا، ومجتمعاتنا ودولنا، وأسلافنا وأحفادنا، وتجاه الله.
على مدى الأجيال القليلة الماضية، فاض الاحتفال بالحرية الفردية وبدأ في تآكل المجموعة الأساسية من الالتزامات المدنية. بعد الحرب العالمية الثانية على وجه الخصوص ثم في ستينيات القرن 20، شهدنا خصخصة الأخلاق ــ صعود ما أصبح يعرف بروح الحرية الأخلاقية. وكان الأميركيون أقل ميلاً لافتراض أن الناس يتعلمون القيم من خلال العيش في مجتمعات أخلاقية متماسكة. وكانوا أكثر ميلاً إلى تبني الاعتقاد بأن كل شخص يجب أن يتوصل إلى إحساسه الشخصي بالصواب والخطأ. منذ عام 1955، رأى كاتب العمود «والتر ليبمان» أن هذا سيؤدي إلى مشاكل. وكتب: «إذا كان ما هو جيد، وما هو صواب، وما هو صحيح، هو فقط ما يختاره الفرد أن يكون، فعندئذ نكون خارج تقاليد التحضر».
خلال اللحظة الحالية التي نعيشها من الشعبوية العالمية، أصبح التقليد الليبرالي تحت التهديد. لقد أصبح الكثير من الناس قوميين اقتصادياً وتقليديين ثقافياً. في مختلف أنحاء العالم، يَعِد الأخلاقيون الاستبداديون باستعادة الأساليب القديمة، والدين القديم، والعظمة الوطنية. أعلن فيكتور أوربان: «هناك أشياء معينة أكثر أهمية مني ومن ذاتي – الأسرة والأمة والله». ويعد هؤلاء الرجال باستعادة أسس الاستقرار الثقافي والأخلاقي والمدني، لكنهم يستخدمون أساليب الرجل القوي المتعصبة للوصول إلى هناك.
لقد حاول الرئيس جو بايدن كسب تأييد الساخطين من خلال إغراقهم بالوظائف والمزايا الاقتصادية. لا يبدو أنه قد نجح سياسياً لأن الغياب الحقيقي الذي يشعر به الناس هو غياب المعنى والانتماء والاعتراف.
سيدور العام الانتخابي هذا، في الولايات المتحدة ومختلف أنحاء العالم، حول ما إذا كانت الليبرالية قادرة على الازدهار مرة أخرى. سيساعد كتاب زكريا القراء على الشعور بالفخر والامتنان لكوننا جزءاً من هذه الرحلة الليبرالية المجيدة والمستمرة.
وهناك مجد في السعي لإضافة فصل آخر إلى القصة الليبرالية العظيمة - بناء مجتمع مبتكر تكنولوجياً، وجريء تجارياً، مع إتاحة الفرص للجميع؛ بناء مجتمع يتم فيه الاحتفاء بالثقافة، وتزدهر فيه الأسر.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»