بعد نصف سنة من الحرب في غزّة جاءت «نقطة التحوّل» من حيث لم تكن متوقّعة، بل من حيث احتدمت المواجهة بين مفهومَي «الإبادة» و«الإنسانية»، وكان الأول ماضياً ومتحدّياً في غلوّه ولا أحدَ يستطيع وقفَه، فيما كان الثاني حاضراً وصابراً ينتظر اللحظة التي يقول فيها العالم «كفى». القصف الإسرائيلي على قافلة الإغاثة التابعة لمنظمة «المطبخ المركزي العالمي» هو ما صنع الفارق في هذه الحرب، ليس لأنه أضاف بضع ضحايا أجانب إلى حصيلة تقترب من خمسة وثلاثين ألف قتيل فلسطيني، ولا لأنه تعرّض لهدف غير حربي ولم يكن ضرورياً أو مبرّراً، بل لأنه جاء خصوصاً في لحظة أراد فيها العالَمُ أن يبذل كل جهد ليمنع حدوث «مجاعة» في قطاع غزّة. منذ نهاية العام الماضي بلغت الحربُ ما يستطيعه طرفاها، وظهرت مفاعيل ميزان القوى العسكرية، ولم يعد هناك واقعياً ما يمكن إثباته أكثر من أن غزّة أصبحت مكاناً غير قابل للعيش فيه.

دمار للمعالم ومرافق الخدمات والمساكن والمستشفيات والمدارس والجامعات، وحتى تدميرٌ للأضرحة والمقابر كما لو أن الهدف اقتلاع السكان من ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.. ومع ذلك، فلا الطرف الإسرائيلي الذي حقق عملياً جلّ أهدافه اعتبر أن ما فعله كافٍ للانتقام من هجوم «7 أكتوبر» وأن الوقت حان للتوقف وإعطاء السياسة فرصةً كي تتعامل مع نتائج الحرب، ولا الطرف الآخر، حركة «حماس» والفصائل الأخرى، وجد نفسَه قادراً على الإقرار بالواقع الكارثي الذي حلّ بقطاع غزّة. قبل ذلك، أي قبل امتداد المواجهة شهوراً أخرى، كانت تقديرات الخبراء متعددي الانتماء تفيد بأن لا نصرَ ولا هزيمة ممكنان في هذه الحرب غير المتناظرة، فإسرائيل كدولة أقوى عسكرياً ومفترض أنها تملك عناصر النصر، وضعت صورتَها وسمعتَها واحترامها للقوانين الدولية على محك تاريخي صعب ستظهر تبعاته لاحقاً، وفصائل غزّة دفّعت السكانَ والأرضَ أفدحَ الأثمان في منازلة غير متكافئة من دون أن تظفر بدوام سلطتها في غزّة ولا باحتمال حكمها لكل الأراضي الفلسطينية. لذا تعثّرت مفاوضات الهدنة التي بدأت فيما كانت حصيلة الضحايا في حدود الـ24 ألفاً وكلّفت عشرة آلاف أخرى، ومزيداً من البؤس بتفاقم الأوضاع الإنسانية وصولاً إلى الجوع، من دون أن تتوصّل إلى نتيجة.

بعد مأساة عمال الإغاثة في بعثة «المطبخ العالمي» وردود الفعل الدولية عليها، وظهور تغيير متأخر في توجّهات الإدارة الأميركية والعواصم الغربية، هناك ما يبدو أنه «أملٌ» في توقّف مؤقّت أو شبه نهائي للحرب. كان الإعداد لهذه البعثة الإنسانية قد استغرق شهوراً من التجهيز في قبرص ومن الاتصالات لتأمينها، ومسّت الحاجة إلى تسريعها عندما ظهرت مؤشرات المجاعة بوفاة أطفال ومسنّين بسبب نقص الغذاء، إذ إنها الوحيدة المؤهلة عالمياً لاختراق الحصار الذي أصبح بالغ الإحكام على غزّة وأهلها مع الحملة الإسرائيلية التي كبّلت وكالة «الأونروا» وأنشطتها. طوال تلك الشهور لم يُستجب للنداءات العربية المتكررة ولا لمناشدات الأمم المتحدة ولا لقرارها الأخير المطالِب بوقف فوري لإطلاق النار وإيصال المزيد من المساعدات الإنسانية.

ما أن بدأت بعثة «المطبخ العالمي» عملها في شمال غزّة حتى لمعت بارقةُ أمل في الحدّ من كارثة الجوع، فهل استُهدفت لأنها تُعطّل المجاعة كهدف للحرب والحصار، وهل كان ضرورياً أن تحصل المأساة لتُطلق الصدمة العالمية؟ الأمر الجيّد أن هناك الآن شيئاً من الأمل في هدنة تحلّ مع عيد الفطر، بعد إخفاق «هدنة شهر رمضان».

*كاتب ومحلل سياسي -لندن