في عام 1889 ولد هتلر، ونهرو، ومارتن هيدجر، وشارلي شابلن، وفي مصر ولد طه حسين وعباس العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن الرافعي ونجيب الريحاني ومكرم عبيد. واحدٌ من مواليد 1889 هو الفيلسوف الأميركي الألماني «ليو شتراوس».
هناك تقارب في الأسماء - حسب النطق العربي - بين ثلاثة شتراوس: «ليو شتراوس» المفكر السياسي والفيلسوف الأميركي الألماني، «كلود ليفي شتراوس» عالم الانثروبولوجيا الفرنسي ومؤسس المدرسة البنيوية، «ريخارد شتراوس» مؤسس المدرسة الألمانية الحديثة في الموسيقى.
لم يحظ «ليو شتراوس» بشهرة مهمة حتى رحيله، لكن اسمه عاد للظهور مع رئاسة رونالد ريجان في الولايات المتحدة، ثم سطع مع رئاسة بوش الابن، حيث اعتبره بعضهم الملهم الفكري لتيّار «المحافظين الجُدد»، ومن ثم ّ المسؤول الأيديولوجي عن الغزو الأميركي للعراق 2003.
عاد ليو شتراوس - بعد سنوات من الرحيل - ليصبح المنظّر لتيّار اليمين المتطرف، والموجّه الفكري لخصوم الديمقراطية الليبرالية، والأفلاطوني الجديد المؤمن بسطوة النخبة وسيطرتها.
ترى الأكاديمية المصرية الكندية «شادية دروري» في كتابيْها «ليو شتراوس والحق الأميركي» و«الأفكار السياسية لليو شتراوس».. أن شتراوس كان يحب أميركا ويكره الديمقراطية الليبرالية، وكان يريد إنقاذ أميركا من ليبراليتها، وأن يحلّ حكم القلة الممتازة محل الأغلبية الغوغائية، بعد أنْ تنتزع النخبة السلطة من السوقة والدهماء. إذْ كان شتراوس مصدوماً مما آلت إليه التجربة الديمقراطية في جمهورية فايمار الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث حلّت النازية محل الديمقراطية، ثم توالت جرائم هتلر وصولاً إلى مأساة الحرب العالمية الثانية، والتي استغرقت (50) ألف ساعة، قتل فيها (70) مليون شخص.
تذهب كاترين ومايكل زوكرت في كتابهما «الحقيقة حول ليو شتراوس» أن المفكر الأميركي الألماني كان يعيش في عالم أفلاطون وأرسطو أكثر مما كان يحيا في الواقع المعاصر، لقد كان عالقاً في التاريخ وليس في السياسة.
بعيداً عن استيلاء اليمين المتطرف الأميركي على ليو شتراوس، كان الفيلسوف قد قسم الحداثة إلى ثلاث موجات: الموجة الأولى فيها كانت موجة ميكافيللي وهوبز، والثانية تنتسب إلى روسو وكانط، والثالثة هى موجة فريدريك نيتشة.
قادت الموجتان الأولى والثانية.. والتي اشتملت على رؤية ميكافيللي في «البراجماتية» و«توماس هوبز» في «الفردية» و«جان جاك روسو» في «الحرية»، وكانط في «الأخلاق العمليّة».. إلى النظرية الديمقراطية الليبرالية. أما الموجة الثالثة ذات الطبيعة النيتشوية فقد قادت إلى النازية والفاشية.
في تقديري.. فإننا إذا أخذنا تصنيف شتراوس فإن العالم بعد الموجات الثلاث يحتاج اليوم إلى موجة رابعة يكون عنوانها العام «التوازن». التوازن بين الدين والدنيا، الفرد والمجتمع، الحرية والمسؤولية، الاقتصاد والعدل.
تبدأ الحداثة من السياسة، فلا مشروع حداثي من دون مشروع سياسي، ولا رؤية معرفية من دون رؤية استراتيجية.
إن مقاومة التطرف والإرهاب، ومواجهة الفقر والجوع والمرض وتغير المناخ.. هى كلها مقدمات لا بديل عنها لأجل بناء الحداثة الرابعة في المستقبل كما كان في الماضي.. الحداثة قبل السياسة.
*كاتب مصري