في الأسطورة اليونانية أن برومثيوس (رمز الإنسان) سرق النار التي كانت بحراسة الآلهة، والنار رمز للحرية والعلم، أو صارت كذلك، فحُكم عليه بأن يظلَّ إلى الأبد يحمل صخرةً من الوادي ليضعها على قمة الجبل، لكن في كل مرة يقترب من القمة تسقط من على كتفه الصخرة فيعود لحملها في نفس المحاولة التي لا تنتهي إلى مآل! صحيح أنه، أي الإنسان، لم ينجح، لكنه لم ييأس، فكأن القيمة في التحدي وليست في الإنجاز أو أنّ التحدي بحدّ ذاته هو الإنجاز. لا أدري كم ينطبق ذلك على «صراع الإرادات» الدائر حالياً في المنطقة التي أطلق عليها الأميركيون منذ عقودٍ «الشرق الأوسط». في أعقاب الحرب العالمية الثانية دار صراعٌ على هوية المنطقة حين كان العرب يحاولون الخروج من الاستعمار وتكوين مُتّحَدٍ يثبّت الهوية التاريخية العربية للمنطقة، وبدا لثلاثة عقودٍ أنهم سينجحون.

لكنّ الذي حصل ظهور ثلاثة عوامل جديدة: الأول حلول الهيمنة الأميركية محلّ الاستعمارين القديمين البريطاني والفرنسي.. والثاني ظهور إسرائيل في فلسطين.. والثالث ما صار يُعرفُ بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وعندما انهار هذا الأخير في عام 1990 بدا كأنما تحقق الانتصار للمعسكر الغربي في منطقة «الشرق الأوسط» التي انتصر فيها الاسم الجغرافي الذي توسَّع حتى دخلت في مصطلحه الاستراتيجي كلٌّ من تركيا وإيران وإسرائيل. بيد أنّ العاملين الآخرين، أي الصراع على فلسطين الإسرائيلي والصراع على الهيمنة الأميركية، ما يزالان مستمرين كما تشير لذلك الصراعات الدائرة الآن وفي قلبها: الصراع على فلسطين- إسرائيل، والصراع على المواقع داخل المنطقة حيث تبرز إيران ومن بعدها بمسافةٍ تركيا في حين يحاول العرب التدخلَ مجدداً لحماية دولهم الوطنية، ومساعدة الشعب الفلسطيني.

إنّ آخِر وقائع «صراع الإرادات»، وكلها عسكرية وأمنية، قيام إيران بالهجوم على إسرائيل مباشرةً وليس من خلال المليشيات التابعة لها كالعادة، وردّ إسرائيل بالهجوم على أصفهان بالداخل الإيراني مباشرةً أيضاً. وفي الهجومين ما تضررت إسرائيل حقاً، وكذلك إيران. لكنّ الواقع الجديد أن الضربات العسكرية بين الدولتين صارت علنيةً ومباشرة، وهو تطورٌ جديدٌ ستكون له عواقب في اتّساع رقعة الصراع، وفي عودة الحديث عن «النووي» لدى الجانبين. والذي برز في الصراع مرة أخرى وقوف الغرب كلّه مع أمن إسرائيل، وأنهم تدخلوا ويتدخلون إذا حصل تهديدٌ لها من أي جهة كانت. ولننتبه إلى مجريات الصراع الآخر، أعني مصائر الشعب الفلسطيني، فعلى حاشية الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة سعى الأميركيون والأوروبيون بعد دخول الحرب إلى جانب إسرائيل، لإقناع العرب والفلسطينيين أنّ «حلّ الدولتين» هو المآل الصحيح. وبالطبع جهرت الحكومة الإسرائيلية بأنها ضد «حلّ الدولتين».

وبعد تعذُّر وقف الحرب على غزة، وصيرورة السلطة الفلسطينية برام الله - استجابةً لطلب الأميركيين - إلى تشكيل حكومة جديدة، جرى التقدم من جانب المجموعة العربية بطلبٍ للاعتراف بالدولة الفلسطينية. والطريف وليس الغريب أنّ الولايات المتحدة وبعض حلفائها ممن سبق لهم القول بحلّ الدولتين بديلاً للحروب المستمرة، عارضوا الطلب العربي من مجلس الأمن، بحجة أن الاعتراف ينبغي أن ينتج عن التفاوض الذي لم يحصل، وإسرائيل تقول إنه لن يحصل! وقد اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل مراراً، في أوسلو وقبلها وبعدها. وهناك قرارات دولية بشأن الدولتين أشهرها عام 1947 بتقسيم فلسطين، واتفاقية أوسلو عام 1993. وفي الحالتين كانت إسرائيل موافقة على الدولة الفلسطينية.ما يزال الصراع على فلسطين في قلب ملفات المنطقة. لكن برز الصراع الآخر، وهو الأخطر في نظر الغرب حالياً، أي الصراع الإيراني الإسرائيلي، وهو لا يهدّد إيران في نظر الغرب، لكنه يهدّد إسرائيل!

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية