طوال السنوات العشر الأخيرة، انتهجت الهند خلال عهد رئيس الوزراء ناريندرا مودي أسلوباً أكثر صرامة في الدبلوماسية، ومن ذلك اتهام وزير الخارجية الهندي الدكتور جايشانكار للغرب بالنفاق بسبب استيائه من علاقة الهند مع روسيا. كما خصّصت الهند مؤخراً كلمات قاسية لكندا التي اتهمت بعض الموظفين في الحكومة الهندية بالوقوف وراء اغتيال زعيم انفصالي سيخي مقيم في كندا في يونيو الماضي. غير أنه عندما يتعلق الأمر بدول الجوار، تختفي عموماً هذه الدبلوماسية القوية لصالح مقاربة ناعمة تنتهجها الهند في التعامل مع قضايا المنطقة. وأحد الأمثلة على ذلك المالديف.

فقد شهدت العلاقات مع هذا البلد الواقع في المحيط الهندي تراجعاً منذ فوز الرئيس محمد معز في الانتخابات الرئاسية المالديفية في سبتمبر من العام الماضي. وخلافاً لسلفه إبراهيم صلح الذي كان من المدافعين عن علاقات قوية مع الهند، سعى محمد معز، الذي تعهد خلال حملته الانتخابية بإنهاء الوجود الهندي في البلاد، إلى تغيير سياسة بلاده التقليدية «الهند أولاً».

ومنذ وصوله إلى السلطة، أخرج معز 75 عسكرياً هندياً من المالديف، وألغى اتفاقية تتعلق بالمياه السطحية مع نيودلهي، كما وضع اتفاقيات أخرى مع الهند قيد المراجعة. وعلاوة على ذلك، خالف معز التقليد المتمثل في زيارة رئيس المالديف للهند، وصدر عن أعضاء في حكومته تعليقات سلبية ضد الهند. وعلى الرغم من هذه الاستفزازات، فإن الهند امتنعت عموماً عن انتقاد المالديف، وهي مجموعة من الجزر المرجانية التي تكتسي أهمية استراتيجية.

وعوضاً عن ذلك، تفاوضت نيودلهي حول استبدال الموظفين العسكريين بموظفين مدنيين، معربة عن أملها في حل المشكلة. ورداً على وصف معز للهند بـ «المتنمر الكبير»، قال وزير الخارجية الهندي إن «المتنمرين الكبار لا يقدّمون مساعدات بقيمة 4.5 مليار دولار». تصريح حذر يُظهر أن الهند تستخدم مقاربة ناعمة في تعاملها مع جيرانها في جنوب آسيا، باستثناء باكستان التي ظلت علاقات الهند معها ضعيفة. وبالمثل، كثّفت الهند تعاملها مع سريلانكا.

فمؤخراً، سمحت نيودلهي بتصدير البصل إلى سريلانكا، على الرغم من الحظر المفروض على تصدير البصل من الهند لضمان عدم ارتفاع أسعار الخضراوات خلال فترة الانتخابات الحالية، فسمحت بتصدير 10 آلاف طن من البصل إلى سريلانكا. والجدير بالذكر هنا أن علاقات الهند مع سريلانكا تتسم بالتوتر في وقت من الأوقات.

ومع ذلك، استمرت الهند في لعب دور داعم، بما في ذلك حينما مرّت سريلانكا بأزمة مالية في 2022 بسبب نقص حاد في احتياطيات النقد الأجنبي. إذ هبّت الهند لدعم سريلانكا، فقدّمت لها مساعدات متعددة الجوانب بقيمة تناهز 4 مليارات دولار العام الماضي، كما قدّمت لها عدة خطوط ائتمان ودعماً للعملة. والواقع أن سياسة «الجوار أولاً» التي تنتهجها الهند، هي التي تفسر أنه رغم المقاربة الدبلوماسية القوية، فإن نيودلهي واصلت الاضطلاع بدور براغماتي في محيطها. وفي هذا الصدد، صرّح الدكتور جايشانكار خلال زيارته إلى نيبال في يناير الماضي بأن رئيس الوزراء ناريندرا مودي ملتزم بإعادة تعريف علاقات الهند مع شركائها في المنطقة. وهذا العام، وقّع البلدان اتفاقية لاستيراد الهند 10 آلاف ميجاوات من الطاقة الكهرومائية على مدى السنوات العشر القادمة، إلى جانب عدد من الاتفاقيات الأخرى.

كما قررت الهند تقديم حزمة مالية بقيمة 75 مليون دولار لهذا البلد من أجل إعادة إنشاء البنية التحتية في المناطق المتضررة خلال زلزال 2015. جارة أخرى تسعى الهند إلى تعميق علاقاتها معها هي بوتان. وقد كانت آخر زيارة لرئيس الوزراء مودي إلى الخارج قبل دخوله الانتخابات إلى بوتان. وتدعم الهند هذا البلد في جهود تحديثه والتي تشمل مدينة «جيليفو مايندفولنس سيتي» التي سيتم إنشاؤها بالقرب من بلدة جيليفو بمحاذاة حدود بوتان الجنوبية مع الهند. ومن المتوقع أن تصبح هذه المدينة مستقبلاً مركزاً اقتصادياً وبوابة للسياح إلى بقية البلاد. . وخلاصة القول إن الهند ولئن أطلقت دبلوماسية قوية، فإنها تستخدم أيضاً اللمسة الناعمة من أجل تعميق العلاقات وتمتينها.

*رئيس مركز الدراسات الإسلامية - نيودلهي.