تسمّرَ بصري وربما بصيرتي طوال الأسبوع على شاشتين أميركيتين لمتابعة ما سميته «ديمقراطية المضاجع». الشاشتان الإخباريتان هما CNN وFOX News، ولمن ليس لديه معرفة بولاء القناتين، فإن CNN تعتبر باليقين قناة الحزب «الديمقراطي»، في حين أن قناة FOX تعتبر القناة الأكثر دفاعاً عن الرئيس ترامب، ومن ثم الحزب «الجمهوري»، وبقليل من المتابعة والتركيز، والوقوف على خدع عتاة الإعلام في أميركا تستطيع أن تهتدي إلى أن الإعلام الأميركي على عكس ماهو متوقع، فقد أصبح حزبي الهوية حزبي الولاء، على عكس ما خطط له المؤسسون الأوائل الذين ضمنوا له الحرية في وجه المؤسسات السيادية الأخرى مدى الحياة سواء أكان ذلك الرئيس أم «الكونجرس» أو«البنتاجون»، أم أي مؤسسة صاحبة قرار، وعلى نحو لا تستطيع أي سلطة وضع أي قوانين تغير ولو بنداً واحداً في الدستور الأميركي قد يقلل من الحرية المكفولة للإعلام. ولهذا نشهد الكثير من التجاوزات المثيرة ضد كل المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم الرئيس نفسه.
انظروا إلى مسار التحقيق مع القاضي «كافناه» المرشح لمنصب المدعي العام صاحب تهمة الاعتداء على الدكتورة «كرستين فورد»، وكيف يخوض الإعلام الأميركي في الكثير من تفاصيل الاتهام وفي وقت متزامن مع تحقيقات الـ FBI، دون أن يحرك القضاء الأميركي ساكناً، ولو أن هذا حدث في أي مكان لسمعنا الأصوات تتعالى بأن يترك العدالة تأخذ مجراها دون تدخل من أي سلطة أو مؤسسة أو حتى أشخاص، وقد أتاحت هذه الحرية المطلقة للإعلام أن يتطور ويترك بصماته الغائرة في مسار التطور المذهل لصناعة الإعلام، ولهذا السبب قدم العالم البريطاني كتابه الشهير، الإعلام هو أميركا أو (Media are America) و«ميديا» بـ«الإنجليزية» صيغة جمع ومفردها (Medium). وقد منح فيه شهادة مطلقة تتردد الآن في الأبحاث الإعلامية كافة التي تؤرخ لتطور الإعلام عبر القرون، وتمنح الإعلام الأميركي الفضل، وكل الفضل لتطور الإعلام على الصعيد العالمي برمته، ولكن.. ماذا؟ ماذا أصاب الأعراف والتقاليد الإعلامية في الولايات المتحدة، وهي الرائدة في مهنة البحث عن المتاعب؟ وأدّعي بعد أن قضيت أكثر من 40 عاماً طالباً وصحفياً وأستاذاً للإعلام في أعرق جامعتين في الإمارات أن الإعلام الأميركي ينحدر بسرعة جنونية إلى قاع ليس له قرار. دليلي على ذلك المشهد الذي أتابعه الآن عما يتردد على القناتين المشار إليهما من حملة مسعورة تكيل التهم للقاضي «كافناه» على قناة CNN ومن حملة معارضة مصدرها FOX NEWS للدفاع عن القاضي.
هذا المشهد يجعلنا نتذكر المخاطر التي تترتب عن فقدان أجهزة الإعلام الأميركية التزام الحيادية في معالجة القضايا السياسية والأخلاقية، والالتزام بما يسميه الأميركيون أنفسهم المسؤولية الاجتماعية، وعلى نحو تكون مهمتها البحث عن الحقيقة دون زيف والواقع دون مراء.
الأزمة التي وقعت فيها الصحافة الأميركية أنها تحولت إلى صحافة حزبية بامتياز، والصحافة الحزبية أو الإعلام الحزبي بأكمله أسقطه القارئ الغربي من حسابه، وساهم إلى حد كبير في الفوضى الدائرة الآن في محيطنا العربي، وأفقدنا القدرة على تصديق أي خبر أو معلومة تقدمها تلك المصادر.
لا بد أننا تابعنا المواجهة الشرسة بين أعضاء الكونجرس من «المحافظين» الذين يعملون بإصرار على تأكيد اتهام «كافيناه» بمحاولة اغتصاب «كرستينا فورد»، في حين يقوم «الجمهوريون» بتقديم الأدلة على براءته، وهي معركة شرسة انتقلت الآن لإدارة المباحث الفيدرالية لتأكيد التهمة أو نفيها.
وتدور الآن معركة شرسة سوف تنتقل لما بعد التصويت الذي يبدأ الترتيب لإجرائه بعد غدٍ. المشهد ينبئ الآن بأن «الديمقراطيين» سوف يمضون في التشكيك بسلوكيات القاضي حتى لو ثبتت براءته أو تأكد تعيينه في المحكمة العليا، في حين يمتلك الجمهوريون ورقة قوية تدور حول الجهة التي سربت الخبر للصحافة دون إذن صاحبة التهمة وإذا ثبت الدليل على «الديمقراطيين»، فسوف تكون صفعة على وجه الحزب الديمقراطي، وسوف يمنى بهزيمة ماحقة بطبيعة الحال.
ما يحزن الآن أنه ولأول مرة يصنف الأميركيون أحزابهم ومنهم أعضاء من الكونجرس بتحول الصراع صراع قبلي، وأن ما يدور الآن شبيه بالحرب القبلية. وما يحزن ثانياً أن الإعلام الأميركي الأكثر ريادة نراه الآن في وضع الانحدار إلى إعلام يتراجع على المستويات المهنية المتدنية، وأدعو القارئ المتتبع لأن يتنقل بين قناة الـ CNN وFOX NEWS للتيقن مما يحدث الآن.