بعدما كُشفت محاولة ''البنتاجون'' الساذجة تمرير مقالات إلى الصحف العراقية، يقفز إلى أذهاننا سؤال بسيط: هل يحق لنا أن نضلل الرأي العام من خلال اللجوء إلى صحافة منحازة تخدم المصالح الرسمية وتعكس وجهة نظر أصحاب القرار في الإدارة الأميركية؟ بالطبع لا، إذ لا يمكن تصور ذلك في مجتمع ديمقراطي وحر، حيث لا يتم الاستعانة بخدمات الصحافة المنحازة إلا من قبل رجال الأعمال الأثرياء، أو بعض المؤسسات التي تشتري المراسلين وتجزل لهم العطاء لنشر مقالات تمجد إنجازاتهم· وبدلا من أن يتولى القطاع الخاص عملية الاختراق تلك للصحافة العراقية وتزويدها بمقالات للنشر وإنجاز المهمة في سرية تامة ودون مشاكل، أفسدت ''البنتاجون'' الأمر عندما قررت أن يتولى المهمة بنفسه· وقد جعله ذلك يقع في مواقف وصفت بأنها شديدة المهانة، حيث لم تكشف فقط مسألة تمرير المقالات إلى الصحافة العراقية، بل تم الكشف أيضا عن رشاوى دفعت للجرائد العراقية كي تنشر المقالات المذكورة·
وربما تلجأ ''البنتاجون'' إلى إلقاء اللوم على ''لينكولن جروب'' وهي الشركة التي استُعين بخدماتها لتمرير المقالات إلى الصحافة العراقية· ورغم أن المحترفين في مجال العلاقات العامة واعون بضرورة تمرير الرسائل إلى الصحافة دون التورط في رشاوى مباشرة، فإنه في حالتنا يمكن أن نلتمس لهم بعض الأعذار· فإذا كان من الصعب جدا إقناع أحد المحررين في الصحف الأميركية بنشر مقال دون طلب مسبق، فما بالك بكُتاب ''لينكولن جروب'' الذين كان عليهم أن يبعثوا بمقالاتهم إلى محررين في بلد أجنبي· أضف إلى ذلك أن المقالات لم تُصغ بطريقة مهنية، وهو ما ظهر بوضوح من خلال العناوين التي تصدرت المقالات· العنوان الغريب التالي: ''الرمال تزحف نحو عراق ديمقراطي''· وبعد قراءة المقالات التي كان يحررها كُتاب ''لينكولن جروب'' أشفقت عليهم لأنهم قد طُلب منهم القيام بمهمة مستحيلة تسعى إلى تضليل الرأي العام عبر نشر سلسلة من المقالات السيئة· فباستثناء بعض العنوانين القليلة خرجت الأغلبية عن إطار المعقول مثل: ''القوات العراقية تلقي القبض على مقاتلي القاعدة وهم يزحفون كالكلاب'' وبالطبع مثل هذا العنوان لا يمت للواقع بصلة·
ولا أعتقد أن أحداً يقرأ عنواناً مثل ''الجنود العراقيون يعززون مهارتهم في القيادة'' أو ''بناء مرافق جديدة في الموصل تساعد على استتباب الأمن'' يصدق كلمة مما جاء فيها· وطيلة المدة التي قضيتها منهمكا في قراءة تلك العناونين المضحكة، تخيلت عينة من الردود المعارضة مثل ''شكراً لاهتمامكم بمستقبل العراق والعملية السياسية الجارية هناك، لكن النجاح التام مازال بعيداً عن التحقق على أرض الواقع''· كما لفت انتباهي عنوان قرأته لأحد المقالات جاء فيه ''العراق قصة نجاح حقيقية''· لكني عندما تجاوزت العنوان واستغرقت في قراءة المقال وجدت المقدمة بطيئة للغاية حيث بدأت على الشكل التالي ''يعتبر قطاع الاتصال في العراق أحد أهم القطاعات التي استفادت من التحرير'' وهي مقدمة كلاسيكية تثقل على عقول القراء المتتبعين لمجريات الواقع العراقي، ثم تابعت قراءة المقال لأكتشف أنه دخل في متاهات لم أفهم المقصود من ورائها حيث جاء فيه ''في الوقت الذي أثير فيه جدل واسع حول صفقة الهاتف الجوال التي أسندت إلى شركة الاتصالات المصرية ''أوراسكوم''، وشركة ''أثير'' التي تتخذ من الكويت مقرا لها، بالإضافة إلى شركة ''آسياسيل'' التي تعود ملكيتها إلى الأكراد، إلا أن نمو قطاع الاتصالات في العراق يعتبر المؤشر الأبرز لقصة النجاح المستمرة في بلاد الرافدين''· وأمام هذه الكتابات التي تعج بها الصحافة العراقية القادمة من أميركا يحق لنا على الأقل أن نتساءل إن لم يكن ممكنا صياغتها بطريقة أفضل يستسيغها القارئ بسهولة، لكني أشك في أن ''البنتاجون كانت يهمها ذلك·
ثم وجدتني أواصل لعبة التخيل وتصور ردود افتراضية على ما كتبته ''البنتاجون'' من مقالات فقادني ذلك إلى الرد التالي: ''أقدر كثيرا ما جاء في مقالكم عن قوات الأمن العراقية التي ذكرتم أنها تتحرك بخفة متناهية في الصحاري مثل الرياح، لكنكم لم تشيروا إلى هؤلاء الأبطال بأسمائهم، ولم تشيروا في أي المناطق يعملون، بل اكتفيتم بذكر الأسلحة التي قلتم بأنهم صادروها دون إعطاء تفاصيل حول الموضوع'' ويضيف صاحب الرد الافتراضي ''قلتم بأن هؤلاء الجنود يحاربون من أجل الحرية بشجاعة أينما ظهرت المشاكل والاضطرابات، وهي مقولات ستروق كثيرا للقارئ الأميركي الذي يترقب بشوق أخبار الجنود الأميركيين في العراق، لكن الشك سيظل يأكلنا ما لم تدعموا كلامكم بأدلة دامغة تثبت تحسن الأوضاع في العراق واندحار المقاتلين''· وأمام الكلام الممجوج الذي تضمنته المقالات المدبجة من قبل خطباء البنتاجون المفوهين سيجد محرر ''لنكولن جروب'' نفسه في مأزق حقيقي، إذ كيف يقنع المحرر الأجنبي في صحيفة عراقية تحترم نفسها ومهنة الصحافة بمصداقية المقالات؟ وكيف تغامر هذه الأخيرة بعرضها على العراقيين وهم يعايشون الحقيقة بالملموس دونما حاج