"حسناً، فنحن لسنا في بغداد على أقل تقدير"... هكذا اعتدنا القول دائماً كلما واجهتنا مصاعب شتاء كابول المفاجئة، حيث لا تدفئة ولا استقرار في خدمات الكهرباء، وحيث تزداد شكوى المواطنين من واقع حالهم. وفي كل هذه الظروف ما يسبب لنا بعض الضيق، إلا أن الذين يقيمون منا بعيداً عن أماكن السكن المخصصة لموظفي السفارات والأمم المتحدة في كابول، يتمتعون بقدر معقول من حرية الحركة النسبية، وليست لهم هواجس أمنية تذكر. وبالطبع هناك "فندق سرينا" الذي يوفر لنا منتجعه شعوراً بالطمأنينة والأريحية، بما فيه من مركز للرياضة وحمامات دافئة، لدرجة أننا نتظاهر في بعض الأحيان كما لو كنا في قلب دبي. غير أن هذا الحال تغير فجأة يوم الاثنين الماضي، عندما اقتحم ردهة الفندق عدد من مسلحي حركة "طالبان"، وأقدم أحدهم على تفجير حزامه الناسف، بينما ركض آخر باتجاه المنتجع والمركز الرياضي، وهو يطلق النيران من بندقيته في جميع الاتجاهات. وكانت حصيلة هذا الهجوم، مصرع ثمانية أشخاص، وإصابة الكثيرين ممن كانوا هناك. وبالطبع فقد كان ما حدث صدمة كبيرة وقاسية بالنسبة لنا نحن الذين كنا نتباهى على أقراننا المحصنين وراء الجدران المحروسة، ولا يتجولون في أنحاء العاصمة كابول إلا وهم داخل السيارات المحصنة ضد الرصاص، وفي رفقة عدد من الجنود المدججين بالسلاح. أما نحن فقد كنا نذهب إلى "شارع الدجاج" حيث نشتري السجاد والأيقونات الصغيرة، بينما نتناول وجباتنا في عدد متضائل من المطاعم المتبقية التي لا تزال تقدم الكحول والمأكولات لزبائنها، ونقيم حفلاتنا في ملهى "لاتمو" الليلي الذي يتجمع فيه الزوار الأجانب بأعداد كبيرة. واعتدنا أيضاً على زيارة صالون "نوفا" للعناية بشعرنا وأظافرنا. وبما أن كل هذا قد أصبح مهدداً بالزوال الآن، فما كان لنا إلا أن نربت على أكتاف بعضنا البعض، لأننا نعلم أن هذه هي كابول في نهاية الأمر. ومع ذلك فما من أحد منا قد هيأ نفسه لوحشية الهجوم الذي تعرضنا له في فندق "سرينا". ذلك أن "طالبان" تتبع استراتيجية جديدة في عملها، على حد تصريح أحد الناطقين الرسميين باسمها. وتتلخص هذه الاستراتيجية في استهداف المدنيين بصفة خاصة، واصطياد أكبر عدد ممكن بين تجمعات الأجانب المقيمين في البلاد. ولا يعني هذا التصريح شيئاً آخر سوى توقع هجوم وشيك محتمل على ملهى "لاتمو". أما عن نفسي، فلم تعد غريبة عليّ هجمات المتمردين بحكم إقامتي المستمرة في أفغانستان طوال السنوات الثلاث الماضية، ضمنها حوالي عام في محافظة هلماند التي تعتبر أحد معاقل تجارة المخدرات ومتمردي "طالبان". وخلال الأشهر القليلة الماضية، كثيراً ما سمعنا عن انتصار قوات "الناتو" وتفوقها الحربي على مقاتلي "طالبان" الذين وصفوا بالتقهقر أمام هذا التفوق العسكري الغربي. وعليه فقد جرى تفسير أي هجوم انتحاري تقوم به الحركة على أنه بمثابة زفرة الموت الأخيرة لهذه الحركة التي عمها اليأس فيما سمعنا. وكلما تقهقرت قوات "طالبان"، لتعيد ترتيب صفوفها من جديد، كلما تعزز اعتقاد الكثيرين بأن المتمردين سيلتزمون هذه المرة بالاختباء في الكهوف والجحور. وفي الاتجاه نفسه، وصف رئيس قيادة الأمن الوطني الأفغاني الهجوم على فندق "سرينا"، بأنه دليل على ضعف "طالبان" ويأسها. وقال "أمر الله صالح"، رئيس الأمن الوطني الأفغاني، لجمهرة من الصحفيين الذين تجمعوا حوله إثر الهجوم على الفندق: "ليس من حيلة لحركة يائسة لم تعد قادرة على السيطرة على المناطق، وفاقدة للتأييد الشعبي من قبل المواطنين، سوى الهجمات الانتحارية". غير أن الصحفيين الآخرين من أمثالنا، والذين واظبوا على رصد وتغطية تراجع أمل الأفغان في الإصلاحات الجارية في بلادهم، يدركون جيداً أين تكمن القوة النسبية لحركة "طالبان". فكما نعلم، قد تراجع احترام الشعب الأفغاني للرئيس حامد قرضاي خلال السنوات الثلاث الماضية، بسبب ضعفه وغرابة سلوكه: مثلاً عندما بكى علناً متفجعاً على مأساة أطفال قندهار، وتوسله لقادة "طالبان" من أجل مده بعناوينهم، ثم اعترافه بضعفه وفقدان حيلته في السيطرة على لوردات الحرب، وانتهاءً ببيع ثوبه الحريري في مزاد علني كي يطعم به اليتامى والنساء الأرامل، كما قال! ونتيجة لفشل القوات الدولية التابعة لـ"الناتو" في توفير الأمن أو حفز التنمية التي تحتاجها البلاد، أصبحت كل هجمة من الهجمات التي تنفذها قوات "طالبان" -وغالباً ما تنكرها السلطات الرسمية أو تقلل من أهميتها- بمثابة لعنة لحلف "الناتو" في نظر المواطنين الأفغان، لاسيما في مناطق الريف. ولم تفلح في تغيير هذه الصورة السلبية عن القوات الدولية، حتى وكالات ومنظمات الغوث والمساعدات الدولية لأفغانستان، والتي اتخذت سياسات غير حكيمة فيما يتعلق بمكافحة تجارة المخدرات، إضافة إلى ارتفاع رواتب موظفيها ومستشاريها، مقارنة بفقر غالبية الأفغان، لتكتمل الصورة بالممارسات الخاطئة العديدة لهذه الوكالات والمنظمات. فمن بين مليارات الدولارات التي تدفقت في شكل مساعدات إنسانية وتنموية لأفغانستان، لم يستخدم منها سوى النزر اليسير للغاية للأغراض التي تدفقت من أجلها. وهذا ما يثير مشاعر اليأس والغبن في أوساط الأفغان، إلى جانب شعورهم بضعف الحكومة المركزية. وفي المقابل تواصل قوات طالبان إعادة رص صفوفها وتصعيد حركة تمردها في انقضاض أكبر وأشد عنفاً. جين ماكنزي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مديرة مكتب أفغانستان التابع لـ"معهد صحافة الحرب والسلام" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"