في مايو 2005، وعندما كنت مبعوثاً خاصاً للرئيس بوش في إقليم دارفور، زرت معسكر "مونري" لنازحي الحرب، وهو يؤوي اليوم حوالي 70 ألفاً من هؤلاء النازحين الذين يقيمون تحت خيام البلاستيك والغرف المؤقتة. وكنت قد ذهبت في الأصل للالتقاء بزعماء القبائل والاستماع إليهم وتقييم مدى فعالية الجهد الإنساني المبذول هناك. لكن وبدلاً من ذلك، فقد كنت شاهداً على اندلاع إحدى أقوى موجات العنف التي شهدها الإقليم، وهي الموجة التي لا تزال عالقة بذاكرتي كلما فكرت في الكيفية التي يمكن بها للأمم المتحدة تقديم العون وتخفيف وطأة معاناة سكان دارفور. وعندما كنت أتحدث إلى الكبار، تجمع حولنا عدد من الأطفال والصبية. وما أن جلست على الأرض وتوجهت بالسؤال إلى أولئك الضحايا الأبرياء طالباً منهم أن يحدثوني عما مروا به، حتى انهمرت دموع بعض الصغار وبدأوا يهمهمون بقصص الفظائع والرعب، عن مصاصي دماء مسلحين يمتطون الخيول، عن قتل آبائهم وإخوتهم أمامهم، وعن الاعتداءات على أمهاتهم وإخواتهم...عن كيفية هروبهم من حرق قراهم. وفي الوقت نفسه كان يقف مسؤول حكومي سوداني إلى جوارنا، فلم يتمكن من إخفاء امتعاضه وتحرجه من قصص الرعب التي كان يرويها الأطفال عن الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها الخرطوم بحقهم. ومن فرط امتعاضه وغضبه فقد طلب من الأطفال الصمت، ما أغضب الزعماء القبليين فصرخوا في وجه المسؤول احتجاجاً على طلبه. وعلى غير ما أتوقع، فقد نشب عراك، التمعت فيه المُدى والسكاكين، وكان ضحيته المسؤول الحكومي الذي انهال عليه حشد من المحتجين من سكان المعسكر ضرباً وطعناً إلى ما يقارب الموت. ويعد هذا المعسكر موطناً لحوالي 2.5 مليون نسمة من نازحي الحرب الأهلية التي نشبت في الإقليم منذ عام 2003، وهو التاريخ الذي انتفضت فيه قبائل دارفور للمرة الثالثة خلال عقدين من الزمان في وجه الحكومة المركزية، بسبب تهميشها وإهمالها المستمرين لمطالب أهل الإقليم الذي تغلب عليه العرقية الأفريقية. فما كان من ردة فعل الخرطوم إلا أن نظمت حملة قتل وحشي قصد بها استئصال شأفة التمرد القبلي هناك، بمشاركة القوات النظامية ومليشيات الجنجويد الموالية للنظام، التي قتلت الآلاف من الشباب، ومارست جرائم الاغتصاب الجماعي إلى جانب إحراقها لنحو 2700 قرية على أقل تقدير. وفي قبيلة "المساليت" وحدها، تم اقتياد ألفي رجل من رجالها وإعدامهم في مشهد دموي جماعي. إيجازاً فقد رأيت في ذلك اليوم في المعسكر المذكور، شيئاً مما لم أسمع به قط في أكثر الحوارات الدائرة جدية ومعنى عن إقليم دارفور. ولكل من تهمه أزمة الإقليم، فإن الفوضى لا تزال سيدة الموقف هناك، ولا يزال في اعتقادي أن تحالفاً دولياً هو وحده الكفيل بالتصدي لتلك الأزمة. ففي نوفمبر من عام 2006، التقى ممثلو 30 دولة في إثيوبيا برعاية ودعوة من كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وفي ذلك الاجتماع تقرر توسيع القوة الأفريقية القائمة حينها، والبالغ قوامها 7 آلاف جندي في الإقليم، بنشر قوة هجينة أفريقية ودولية مؤلفة من 26 ألفاً. كما دعا الاجتماع أيضاً إلى التفاوض حول اتفاقية سلام بين متمردي دارفور والحكومة السودانية، من دونها لن تكون ثمة جدوى لنشر القوة المعنية بحفظ السلام أصلاً. وبالفعل بدأنا تفاوضاً مبكراً في ذلك العام حول هذه الاتفاقية، إلا أن المؤسف أن الطرف الوحيد الذي وقع عليها من جانب متمردي الإقليم، هو الفصيل الذي يقوده "مني مناوي". وبالنتيجة فلا تزال الانقسامات الداخلية لفصائل التمرد تثير قلقي، حتى في حال وصول القوة الهجين هذه إلى الإقليم. ثم تكررت محاولتنا تارة أخرى في ليبيا في شهر أكتوبر من العام الماضي، بهدف بدء محادثات جدية بين الحكومة ومتمردي الإقليم. إلا أن قليلاً جداً من هؤلاء حضروا إلى تلك المحادثات، بينما تغيب الكثيرون تحت شتى الاعتذارات والحيل. ومن المتمردين من يعتقد أن في وسعه إلحاق هزيمة عسكرية بنظام الخرطوم، بينما يعتقد آخرون أن التناحر الداخلي بين فصائل التمرد، أضعف الموقف التفاوضي لها. وهذا هو ما يتناسب تماماً وسياسات نظام الخرطوم الهادفة أصلاً إلى تمزيق أوصال الحركة وزرع الخلافات والانشقاقات فيما بينها، بهدف تذليل ضربها وإلحاق الهزيمة بها. وفي غضون ذلك، انهمك بعض دول الجوار في تسليح هذا الفصيل المتمرد أو ذاك، ما فاقم أزمة الانقسام الداخلي في صفوف المتمردين أنفسهم. وبالنتيجة فقد انقسم الفصيلان الرئيسيان اليوم إلى 20 فصيلاً مجتزأً، ما جعل الاقتتال الداخلي فيما بينها عقبة رئيسية أمام التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع. وعلى رغم صعوبة التوصل إلى تسوية كهذه، لا يزال طريق السلام واضح المعالم: فعلى الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول المهتمة بالنزاع أن تصر على الآتي: الاختيار الحر لممثلي معسكرات النازحين دون تدخل من أحد، زيادة عدد وصلاحيات ممثلي الجمعيات والمنظمات المدنية الدارفورية في مؤتمر السلام، تمثيل القبائل العربية في أي مؤتمر سلمي يعقد، إلى جانب وقف التدخل الإقليمي في النزاع، خاصة المتعلق منه بتسليح متمردي الإقليم. فكلما تأخر إحلال السلام، كلما ازدادت موجات العنف كتلك التي رأيتها بعيني في معسكر النازحين، وكلما ضعفت احتمالات نجاح القوة الهجين في أداء دورها المنوط بها في دارفور. أندرو إس. ناتسيوس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مبعوث سابق للرئيس بوش في دارفور وأستاذ الدبلوماسية بجامعة "جورج تاون". ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"