كان يوم أول أمس الثلاثاء الموافق الثلاثين من شهر يونيو، هو الموعد المحدد لانسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية الرئيسية. وهذا الخط الواضح على الرمال، يجب أن يوفر بعض العزاء للعديد من الأميركيين الذين قدموا تضحيات استثنائية في العراق. وفي الوقت الذي تنقل فيه الولايات المتحدة بؤرة اهتمامها العسكري والأمني إلى أفغانستان، وإلى غير ذلك من المسائل ذات الأهمية البالغة، فإنه ليس في مقدور أحد منا الركون إلى الاعتقاد بأن العراق قد أصبح"مهمة منجزة". فهذا الإحساس بالأمن، هو في حقيقته إحساس زائف وغير حقيقي، لأن تاريخ الثلاثين من يونيو، لا يمثل نقطة النهاية التي يجب الاحتفال بها من قبل فلاسفة السياسة، وإنما هو نقطة البداية لفصل يكتنفه قدر كبير من عدم اليقين في تاريخ الديمقراطية، والمشاركة السياسية، والنظام الفيدرالي... في دولة العراق. والأحداث المؤلمة التي وقعت مؤخراً في العراق، تظهر نوعية التحديات التي تنتظرنا في المستقبل. ففي الشهر المنصرم، كان علينا إنجاز مهمة حزينة حقاً وهي دفن واحد من كبار الساسة العراقيين المعتدلين، وهو عضو البرلمان"حارث العبيدي" الذي قتل برصاصات غادرة وبطريقة وحشية في أحد المساجد يوم الثاني عشر من الشهر الماضي، في حادث يرجح أن يكون قد تم على أيدي عناصر تنظيم "القاعدة". وعلى الرغم من أن أحداث العنف الواسعة النطاق، كالهجمات الانتحارية على سبيل المثال، قد انخفضت إلى حد كبير في مختلف أنحاء العراق، فإن الحادثين المأساويين اللذين وقعا الأسبوع الماضي، يظهران بجلاء أن مثل تلك الأحداث لا تزال قابلة للتكرار، ولا زال هناك بعض الأشخاص قادرين على زرع بذور الفوضى واليأس وسط العراقيين. وهناك إلى جانب ذلك، دول في منطقتنا لا تزال تحاول التأثير على سياساتنا الداخلية وتوجيهها وفقاً لمصلحتها الخاصة. علاوة على أن الاستمرار في القبض على مقاليد السلطة من قبل النظام في إيران، سيعني استمرار دعمه للأحزاب والجماعات المتعاطفة معه في العراق. وعلاوة على ذلك قدم وزير التجارة لدينا استقالته في الشهر الماضي، على خلفية اتهامات بالفساد الذي يقال إنه قد أصبح واسع الانتشار في العراق لدرجة تجعله، من حيث الخطورة، في مستوى تمرد مسلح من نوع آخر. والفساد والعنف ليسا من بقايا نظام أُطيح به في العراق، وكان يقوم خلف خط وهمي مكتوب عليه "30 يونيو"، وإنما هما في الحقيقة تهديدان يجب على العراق أن يحاربهما كل يوم، وهي المهمة التي تمثل عبئاً أصبح يقع على عاتقنا إلى حد كبير الآن. بيد أن الخبر السار في كل ذلك، هو أننا نبدأ بداية واعدة. فاعتباراً من منتصف شهر يونيو الماضي، انخفض معدل العنف الدموي الواسع الانتشار في العراق بنسبة 60 في المئة عن آخر ذروة كان قد وصل إليها، كما أن مستوى العنف الإرهابي في شهر مايو الفائت كان الأقل منذ عام 2003، وهو ما يرجع، إلى حد كبير، إلى تحسن قدرات ومهارات قوات الشرطة العراقية التي أصبح عددها يصل في الوقت الراهن إلى 500 ألف جندي. ومن المقرر بعد انسحاب القوات الأميركية، أن تتولى الشرطة العراقية المسؤولية عن الأمن في معظم مراكز الكثافة السكانية الكبرى، بما في ذلك نحو 70 في المئة من مساحة بغداد. وسوف تكون وزارة الداخلية مسؤولة مسؤولية كاملة عن الأمن في سبع محافظات، كما ستكون مسؤوليتها مشتركة مع وزارة الدفاع عن الأمن في ثمان محافظات أخرى. وسوف يقوم الجيش العراقي، تحت إشراف وزارة الدفاع، بدعم الشرطة في المحافظات التي تضم مدن العراق الرئيسية، وهي: بغداد، والبصرة، والموصل، وكذلك في محافظة الأنبار ذات الأغلبية السنية الواقعة في غرب العراق، وفي محافظتي ديالى وصلاح الدين شمال العاصمة، وفي كربلاء الواقعة جنوبها. ونحن نشتغل الآن على أشياء أخرى إلى جانب موضوع الأمن. فوزارتي وحدها أنهت خدمات ما يزيد عن 60 ألف موظف، سواء بتهم الفساد أو للاشتباه في ارتكابهم مخالفات أخرى. وفي شهر يونيو المنصرم أعلنا أن 40 ضابطاً سوف توجه لهم تهمٌ، بعد أن أثبتت تحقيقات أجريت بشأن إساءة معاملة معتقلين في السجن، أن بعض هؤلاء المعتقلين تم سجنهم بدون مسوغ قانوني، وأن آخرين قد انتهكت حقوقهم. وإذا ما تجاوزنا المهام الشُرطية، وجهود مكافحة الفساد، فإننا نقول أيضاً إن العراقيين سوف يكون لهم أقوى رأي في تاريخهم على الإطلاق بشأن الطريقة التي سيتشكل بها مستقبلهم. ونحن ننظر بالفعل، في الوقت الراهن، إلى ما بعد 30 يونيو، وتحديداً إلى 30 يناير 2010 وهو التاريخ الذي سيتم فيه إجراء انتخاباتنا التالية. وسوف تقوم الأحزاب العراقية المختلفة، بما فيها حزبي، بتسمية مرشحين لخوض تلك الانتخابات. غير أنه يجب علينا مع ذلك أن نعرف أن هذه العملية الديمقراطية ليست غاية في حد ذاتها، وأن عملية التصويت وحدها لا تكفي لحماية ديمقراطيتنا، لأن أي ديمقراطية يمكن أن تسقط على أيدي الانفصاليين أو الأحزاب المتحكم فيها من الخارج. إن كل عملية انتخابية من العمليات الانتخابية المتوالية التي أجريت هنا في العراق، كانت بمثابة قاطرة جر لإنقاذ وطننا، لكن إيا منها قد لا يكون -مع ذلك- على ذات القدر من الأهمية والخطورة التي ستكون عليهما انتخابات عام 2010. إن اختيارنا في هذه الانتخابات سوف يكون بين القبائلية والقومية وكل شيء يقع بين الاثنين، وبين الأحزاب المدعومة من قبل القوى الأجنبية والحركات الشعبية الأصيلة النابعة من تراب هذا الوطن، وبين العلمانيين والإسلاميين. إن هذه الخيارات هي التي ستدشن لقاء العراق مع القدر. وإذا ما ما شهدت الأسابيع القليلة القادمة قدراً معقولا من السلام والهدوء، وإذا ما استمر التقدم في مواجهة الفساد، وإذا ما استمرت عملية استرداد الخدمات الأساسية للمواطنين على وتيرتها... فإننا سنكون قد خطونا خطوة ضخمة إلى الأمام. فمع انتخابات العام المقبل، حيث ستكون القوات الأميركية حينها قد غادرت مدننا منذ وقت طويل، فإننا سنكون كعراقيين قد اقتربنا من حكم أنفسنا بعد طول انتظار. جواد البولاني وزير الداخلية العراقي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص من خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"