يوم السبت الماضي، بلغ "هلموت كول" مستشار ألمانيا الأسبق الثمانين من عمره. واحتفالًا بهذه المناسبة السعيدة أرسلت المستشارة الألمانية وعدد من الشخصيات الأخرى الكبيرة في ألمانيا كلمات إشادة وتقدير وتهنئة للمستشار الذي يطلق عليه: "كول... الملك القديم ". ولكن المفارقة هنا أن مقاربة دولته الحالية لأوروبا، وخصوصا لمنطقة "اليورو"، التي تكتنفها المشكلات قد تؤدي لتقويض إرثه الأوروبي. وإذا ما سألت أحداً عن الأسباب التي تجعل المشروع الأوروبي، يبدو متعثراً اليوم، فإنه سيذكر لك عدة أسباب لعل أهمها على الإطلاق أن "الماكينة الألمانية"، قد تعطلت وإذا ما سألته عن سبب تعطلها فسيقول لك على الأرجح إن السبب يرجع لتحول ألمانيا لدولة "عادية" شأنها في ذلك شأن بريطانيا وفرنسا. اقتداء بنهج استاذه الروحي المستشار" كونارد أديناور" كان"كول" يصر دوماً على أن تحقيق الوحدة الألمانية والأوروبية هما "وجهان لعملة واحدة". وعندما جاءت الفرصة لتحقيق الوحدة الألمانية - على غير توقع - لم يتردد المستشار في انتهازها، وهو ما أفاد ألمانيا، وأفاد أوروبا بأسرها بالتالي. ومن بين التداعيات البعيدة المدى لسياسة "كول" ذات المسار المزدوج، وهو العمل من أجل توحيد ألمانيا وتوحيد أوروبا في آن، هو أن ألمانيا قد اضطرت إلى التخلي عن عملتها المحبوبة المارك الألماني لمصلحة اليورو. في ذلك الوقت، حذر بعض الاقتصاديين من أنه لا يمكن أن يصبح لدى أوروبا اتحاد نقدي متين وقابل للاستمرار لمدة طويلة، ما لم تكن هناك سياسة مالية واحدة، أو على أقل تقدير، سياسة مالية تخضع لتنسيق دقيق ومحكم، ويتوافر لها إمكانية إجراء تحويلات مالية ضخمة إلى تلك الأجزاء من الاتحاد التي تنجز بشكل أقل كفاءة، وهو ما لم يتم على الإطلاق، على الرغم من أن"كول" قد تمنى حدوثه. فبدلاً من أن يؤدي التكامل الاقتصادي إلى تكامل سياسي، وبدلًا من أن تتحول منطقة "اليورو" إلى قطب جاذب للوحدة السياسية، تحولت تلك المنطقة إلى سوق ضخمة للصادرات الألمانية. وهذه العيوب الأساسية في بنية الاتحاد المالي الأوروبي ظلت قائمة، إلا أن جاء وقت المحاسبة عندما انفجرت الأزمة المالية اليونانية الحالية. ولو كان"كول" هو الذي يتولى منصب المستشار في المانيا الآن، لكان من المؤكد أن الخطوة المباشرة التي سيتخذها هي أعطاء الأولوية للجهود السياسية الطويلة الأمد الساعية لتحقيق الوحدة الأوربية، وتفضيلها على الأكلاف القصيرة الأمد اللازمة لمواجهة تداعيات تلك الأزمة. في الآن ذاته تحولت ألمانيا إلى دولة مختلفة، فحتى ما قبل التوحيد، كانت ألمانيا تريد أن تكون دولة"سوبر أوروبية" لأسباب تتعلق بالذاكرة التاريخية، والمثالية الألمانية، والحس التاريخي بالمسؤولية، كما تتعلق أيضا بمصلحتها القومية. بعد توحيد الألمانيتين في دولة مستقلة، كاملة السيادة، لم تعد هناك من حاجة لألمانيا، كي تكون دولة سوبر أوروبية. وفي ذلك الوقت، وقف المهتمون بالشأن الألماني في شغف كي يروا، ما إذا كانت ألمانيا الجديدة ستستمر في اتباع نهج أديناور - كول التوحيدي، أم أنها ستصبح دولة - أمة "عادية" مثل فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص، أي مجرد دولة تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية في المقام الأول من خلال قنوات أوروبية، وحتى لو كان ذلك على حساب الآخرين. وجاءت العلاقات الخاصة التي سعت ألمانيا الموحدة إلى إقامتها مع روسيا من أجل تأمين احتياجاتها من الطاقة اللازمة لتشغيل مصانعها الجبارة، لتعطي مؤشراً واضحاً على توجهات ألمانيا فيما بعد التوحيد ثم جاءت الأزمة اليونانية الأخيرة لتحسم هذا التوجه. البعض ينتقد "ميركل" شخصياً على الموقف الذي اتخذته تجاه الأزمة المالية اليونانية الحالية، ولكن الحقيقة أن "ميركل" الحريصة على بناء إجماع، وعلى تعزيز تيار الوسط السياسي، لم يكن لديها الجرأة الاستراتيجية، التي كانت لدى أديناور أو "كول". وحتى لو كان هناك شخص آخر أكثر جسارة يشغل منصب المستشار في ألمانيا في الوقت الراهن، فإنه لم يكن في مقدوره أن يسير عكس اتجاه الرأي العام الذي تدل مواقفه وردود أفعاله حيال هذا الموضوع، على أن ألمانيا ليست مهيأة بعد لعمل أي تضحيات إضافية من أجل" أوروبا". وليس هناك شك أن التداعيات الاقتصادية التي ستترتب على هذا الموقف ستكون معقدة وغير متيقن منها، بل وقد يرى البعض أن ما حدث في هذا الربيع يعتبر في الحقيقة بداية النهاية لمنطقة اليورو". أنه لشيء محزن أن يحدث هذا في الحقيقة، لأن المصالح الطويلة الأمد للألمان والبريطانيين والفرنسيين والأوروبيين، تتطلب منا توحيد الجهود في عالم يشهد صعود عمالقة جدد مثل الصين على سبيل المثال لا الحصر. من المفارقات الجديرة بالذكر في هذا السياق أن "المحافظين" البريطانيين بقيادة "تاتشر" المتشككين في جدوى الوحدة الأوروبية جفلوا في فزع من فكرة توحيد الألمانيتين، وقالوا صراحة إن ذلك لو حدث فسيؤدي إلى نشوء دولة سوبر أوروبية، بل وإلى إمكانية نشوء" رايخ رابع". ولكن ما نراه اليوم أن "المحافظين" البريطانيين الذين يسعون للعودة مجدداً إلى السلطة، أصبحوا ونتيجة لتوحيد ألمانيا التي يرجع الفضل فيها لأفكار"كول"، أقل تشككاً وأكثر ميلًا لأوروبا، في الوقت الذي استغرقت فيه ألمانيا تماماً في السعي لتحقيق مصالحها كأي دولة"عادية" أخرى. وبمناسبة بلوغ "كول" الثمانين من عمره، فإن "تاتشر" بالذات يجب أن تكون واحدة من الذين يجب أن يرسلوا له رسالة تهنئة وشكر على موقعه الشخصي. أما إذا ما كان المستشار سيولي هذه الرسالة الإلكترونية ما تستحقه من تقدير أم لا... فمسألة أخرى. تيموثي جارتون آش زميل رئيسي بمعهد هوفر وأستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أكسفورد ينشر بترتيب خاص مع خدمة"إم. سي. تي إنترناشيونال"