في مطلع الشهر الجاري عقد كرزاي أربعة أيام من المحادثات المكثفة بواشنطن مع الأعضاء الكبار في إدارة أوباما. وقد شكلت الزيارة نجاحاً لا يقبل الشك في مجال العلاقات العامة، حيث كُرم وأشيد به كحليف لا غنى عنه في حرب أميركا ضد "طالبان"، وسُحبت الانتقادات السابقة التي كانت توجه له كزعيم غير فعال. غير أنه تحت مظاهر الود السطحية مازالت ثمة خلافات كبيرة، وفي مقدمتها كيفية التعاطي مع "طالبان". ذلك أن كرزاي يريد التفاوض مع الحركة، بل إنه عرض التحدث مع زعيمها؛ في حين ترى واشنطن أنه يجب أولًا إضعاف "طالبان" وإخضاعها قبل أن يمكن للمفاوضات أن تنجح. ومن غير الواضح حتى الآن ما إن كانت هذه الخلافات الجوهرية قد حُلت، وإلى أي مدى. في هذه الأثناء، يخطط كرزاي لعقد "اللويا جورجا"، أو المجلس الوطني للزعماء الأفغان، خلال الأسابيع القادمة، وذلك من أجل الحصول على التفويض لخوض المفاوضات مع "طالبان". ويأتي ذلك عقب تمرير قانون عفو يحمي زعماء الحرب من الملاحقة القضائية عن جرائم الحرب، وكذا زعماء "طالبان" ما قبل 2001. كما تروج شائعات في كابول هذه الأيام تفيد بأن كرزاي يريد من المجلس أن يعبد الطريق لوقف لإطلاق النار كخطوة أولى أساسية نحو المصالحة الوطنية. ذلك أن كرزاي يرى، على ما يبدو، أن مستقبله السياسي يعتمد على تحقيق مصالحة وطنية قبل أن تبدأ القوات الأميركية الانسحاب من أفغانستان في منتصف 2011، أي بعد عام وبضعة أسابيع من اليوم، وفق البرنامج الذي وضعه أوباما. غير أن جدول كرزاي الزمني وأهدافه الفورية لا تتطابق مع نظيرتها الأميركية؛ حيث يخطط "ماكريستال"، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، لشن حملة عسكرية كبيرة على قندهار، عاصمة إقليم هلمند ومعقل "طالبان"، في وقت أصبحت فيه "زيادة" القوات التي طلبها "ماكريتسال" الجزء المركزي لاستراتيجية أوباما لمحاربة التمرد. والجدير بالذكر أن القوات الأميركية تمكنت خلال الأسابيع الأخيرة، ببعض الصعوبة، من بسط سيطرتها على مدينة "مرجة" الصغيرة في هلمند، ولكن قندهار تعد تحدياً أكبر، وستكون السيطرة عليها مهمة أصعب بكثير، إذ من المؤكد أن القوات الأميركية ستتكبد خسائر؛ ومن المرجح أن تكون الإصابات في صفوف المدنيين مرتفعة، وكذلك الحال بالنسبة للخسائر في الممتلكات، الأمر الذي لن يُكسب الأميركيين أصدقاء بين السكان الأفغان الذين يعانون ضغوطاً وظروفاً جد صعبة. والواقع أن من بين المواضيع التي أثارها كرزاي بإصرار في واشنطن هو ضرورة تجنب إصابات في صفوف المدنيين، على اعتبار أنها تُضعف شرعيته وتجعله يبدو كتابع للأميركيين. والحال أن الإصابات المدنية أمر لا يمكن تجنبه في العمليات العسكرية؛ والمشكلة نفسها تقريباً مطروحة اليوم عبر الحدود في المناطق القبلية لباكستان حيث تُلحق الهجمات التي تشنها الطائرات الأميركية بدون طيار على المقاتلين المشتبه فيهم – والتي يبلغ متوسطها اليوم هجوما واحدا في الأسبوع - إصابات بين المدنيين وتؤدي إلى تأليب السكان الباكستانيين على الأميركيين. وهكذا، وبدلًا من إخضاع "طالبان"، فربما يكون لـ"الزيادة" التي طلبها "ماكريستال" تأثير عكسي؛ ذلك أن الرأي العام بين حلفاء أميركا في الناتو بات مناوئاً للحرب؛ ومن شبه المؤكد أن ارتفاع عدد إصابات الجنود سيؤدي إلى زيادة الضغط السياسي من أجل الانسحاب. وعلاوة على ذلك، فإنه كلما زاد عدد الأفغان (والباكستانيين) الذين يُقتلون، كلما زاد خطر الإرهاب محلي النشأة في الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك لأن الحجة القائلة بأن الغرب يقاتل في أفغانستان من أجل حماية نفسه من الإرهاب تقوم على أسس واهية وباطلة. في هذه الأثناء، تصر واشنطن على ألا تكون ثمة أي صفقة مع "طالبان" قبل أن تقطع هذه الأخيرة علاقاتها مع "القاعدة"، وتلقي سلاحها وتوافق على الالتزام بالدستور الأفغاني؛ وقد كرر أوباما نفسه هذه المطالب أمام كرزاي (الأسبوع الماضي؟)؛ غير أن مثل هذه الشروط الصارمة قد تكون غير واقعية، وذلك لأن وجود "القاعدة" في أفغانستان يبدو قليلاً جداً، بل إن المجموعة تكاد تكون غائبة هناك. ثم إن" طالبان أفغانستان" لا تحارب من أجل حماية "القاعدة"، وإنما للحصول على الاستقلال من الاحتلال الأجنبي. ولذلك، فأن يُطلب من "طالبان" إلقاء سلاحها قبل التوصل إلى اتفاق - وبالتالي جعل نفسها تحت رحمة القوات الأميركية – يعد أمراً غير واقعي، ولاسيما في بلد حيث كل الرجال تقريباً مسلحون. أما المشكلة الأخرى، فهي مطالبة "طالبان" بالتعهد باحترام الدستور الأفغاني؛ والحال أنه ربما يكون الدستور الحالي، الذي يمنح سلطات واسعة للحكومة المركزية والرئيس نفسه، ربما يكون في حاجة إلى مراجعة من أجل إضافة مادة تنص على شكل أكثر لامركزية من أشكال الحكم يلائم أكثر الخليط القبلي المعقد لأفغانستان والتنوع الإقليمي الكبير. لكن سيكون من المناسب أكثر ربما لو يُطلب من "طالبان" أن تتعهد باحترام حقوق أقليات الهزارة والطاجيك والأوزبك، وكذا حقوق النساء في التعليم والعمل. غير أن ثمة نقطة خلاف أخرى تهم جيران أفغانستان. فكرزاي يدرك الدور الذي يمكن أن تلعبه إيران في المساعدة على إرساء الاستقرار في بلده؛ وقد استضاف مؤخراً الرئيس الإيراني في كابول، وهو رجل تنظر إليه واشنطن بنوع من الضددية. كما أن الولايات المتحدة منخرطة اليوم في جهود تروم حشد الدعم الدولي لحزمة من العقوبات المشددة ضد إيران وبرنامجها النووي، والأكيد أنها سياسة لن تؤمن مساعدة إيرانية في أفغانستان. وعليه، فيمكن القول إن كرزاي وواشنطن مايزالان بعيدين عن اتفاق حول كيفية إحراز التقدم، غير أنه ربما يكون لدى كرزاي الداهية، الذي يوجد في السلطة منذ ثماني سنوات، فهم أكبر للحقائق المحلية من المخططين الاستراتيجيين في واشنطن.