تتضمن استراتيجية الأمن القومي المكونة من 52 صفحة، التي قدمها أوباما إلى الكونجرس الأسبوع الماضي، قدراً كبيراً من العبارات الملهمة حول قيادة أميركا العالمية التي تقوم، حسب الوثيقة، على التحالفات المتينة، والقوة العسكرية التي لا تضاهى، والاقتصاد الأقوى في العالم، وعلى ديمقراطية قوية ومتطورة، ومواطنين ديناميكيين. وراء البلاغة، هناك الكثير مما يمكن أن يقدم مؤشرات واضحة على السياسات التي ينوي أوباما انتهاجها خلال السنوات المتبقية من ولايته. والملاحظ من خلال قراءة هذه الأوراق، أن الكلمات التي يستخدمها الرئيس الأميركي أكثر تصالحية بكثير من الكلمات التي كان يستخدمها سلفه، ولكنها لا تزال مع ذلك تحمل الكثير من معاني القوة. والرسالة العامة التي تحملها تلك الاستراتيجية هي: على أعداء أميركا أن يكونوا على حذر، فهذه الإدارة ليست بالخصم السهل كما قد يتخيل البعض. ولقد كان من المحتم أن تركز الصفحات الرئيسية في تلك الاستراتيجية على منطقة الشرق الأوسط الكبير، وهي المنطقة التي تمثل أخطر التحديات التي تواجه القوة الأميركية، والتي ينخرط فيها عدد كبير من القوات الأميركية في عمليات عسكرية. والموضوعات الرئيسية في الاستراتيجية هي: الحرب بلا هوادة على "القاعدة"، وفي أي مكان توجد فيه، أو يوجد فيه حلفاؤها، وإنذار حازم لإيران بفرض المزيد من العزلة عليها إذا لم تغير طريقتها، والتصميم على مواصلة السعي من أجل تحقيق السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب. والنجاح في تحقيق أي من هذه الأهداف، من المحتمل أن يكون صعباً. أما تحقيقها جميعا فسيكون معجزة بكافة المقاييس. ليس هناك أحد -باستثناء المهووسين بحلم إسرائيل الكبرى - يمكن أن يعترض على السعي الأميركي لتحقيق هدف السلام في الشرق الأوسط، ولكن الهدفين الآخرين أكثر إشكالية. ففيما يتعلق بالحرب على "القاعدة"، تعلن الوثيقة بنبرة طموحة" سوف نمزق، ونفكك، ونهزم "القاعدة" وفروعها من خلال استراتيجية شاملة تحرمهم من الملاذ الآمن، وتقوي شركاء الخط الأول، وتواجه الأجندة المفلسة للتطرف والقتل، بأجندة مضادة تنبني على الأمل والفرص. والخط الإمامي لهذا القتال هو أفغانستان وباكستان... إلخ). وتشدد الوثيقة على أن "حرب أميركا العالمية" ليست ضد الإرهاب بشكل عام، كما كان الأمر إبان إدارة "بوش"، كما أنها ليست ضد الدين الإسلامي، ولكنها، بدلا من ذلك، "حرب ضد شبكة محددة هي "القاعدة" وفروعها الإرهابية، التي تدعم الجهود الرامية لمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها، وشركائها". هل هذه السياسة سليمة أم أنها متعلقة بتفكير قديم، أم أن من صاغوها كانوا تحت هيمنة هاجس هجمات الحادي عشر من سبتمبر؟ يعتقد خبراء عديدون أن وجود "القاعدة" في أفغانستان، وباكستان، محدود للغاية، لا يزيد ربما عن عشرات قليلة أو في، حده الأقصى، عن عدة مئات من المسلحين المنتمين إلى جنسيات متعددة. بالتأكيد ليس هذا هو العدد الذي يبرر نشر 100 ألف جندي أميركي. وعدو أميركا الرئيسي في مسرح العمليات الباكستاني- الأفغاني هم مقاتلو "طالبان"، وهم مجموعة فضفاضة التكوين من المقاتلين، الذين، وإن كانوا قد وفروا الحماية لـ"القاعدة"، إلا أنه لا يجب الخلط بينهم وبينها. وتتكون" طالبان"، بشكل عام، من رجال ينتمون لقبائل البشتون الذين يتسمون بالشراسة، والاستقلالية، والتمسك الشديد بعاداتهم القبلية ودينهم الإسلامي، والذين يستاؤون جداً من وجود الأجانب، ومن العمليات العنيفة التي يشنوها بمناطقهم القبلية، وهؤلاء يقاتلون من أجل طرد الأميركيين، وغيرهم من القوات الأجنبية، وليس من أجل نقل الحرب إلى الغرب. والشابان الأفغاني والباكستاني، اللذان حاولا مؤخرا تنفيذ هجمات إرهابية في الولايات المتحدة ـ الأول من خلال محاولة التسبب في وقوع انفجار في مترو أنفاق نيويورك، والثاني من خلال تفجير سيارة محملة بالمتفجرات في ميدان "تايمز سكوير" ـ كانا يسعيان للانتقام من العمليات العسكرية الأميركية في بلديهما، وبشكل خاص الهجمات الصاروخية التي تشنها الطائرات الأميركية من دون طيار، والتي أوقعت خسائر فادحة وخلفت مرارة شديدة. ورأيي الشخصي في هذا السياق، أن الطريقة الأمثل لحماية أميركا من مثل هذه الحوادث هي التفاوض على وقف إطلاق نار فوري متبوع بسلام دائم مع "طالبان"، بدلاً من توسيع نطاق الحرب، بوهم أن ذلك سيؤدي إلى تدمير تنظيم "القاعدة" المراوغ. أما فيما يتعلق بإيران وبرنامجها النووي، فقد كان يجب على الولايات المتحدة أن تقدم دعماً سريعاً وحماسياً للصفقة التي أبرمها في طهران الرئيس البرازيلي ورئيس الوزراء التركي، والتي كان يمكن أن تؤدي إلى تسوية بعيدة المدى. بدلاً من ذلك، عمدت الولايات المتحدة إلى التهوين من شأن الصفقة، والضغط من أجل فرض المزيد من العقوبات على إيران. ولا شك أن هذا الموقف سيؤدي إلى دفع طهران إلى المزيد من التحدي للغرب، كما سيؤدي أيضاً إلى تحفيز سباق جديد من أجل الحصول على رادع نووي، حتى لو كان ذلك من أجل حماية نفسها -إيران - من التهديد الأميركي والإسرائيلي. والقسم الأكثر إيجابية في استراتيجية الأمن القومي هو ذلك الذي يتناول الصراع العربي - الإسرائيلي. فالوثيقة تقرر في هذا الجزء أن الولايات المتحدة" تسعى إلى حل الدولتين اللتين تقومان جنباً إلى جنب وتعيشان في سلام وأمن - دولة إسرائيلية يهودية تتمتع بأمن حقيقي، وقبول، وحقوق لجميع أفراد شعبها.. ودولة فلسطينية، مستقلة، قادرة على الحياة، تقوم على أراض متصلة تنهي حالة الاحتلال الذي بدأ عام 1967... "وتضيف الوثيقة:"وفي الوقت الذي نسعى فيه إلى تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإننا سنواصل السعي أيضاً من أجل تحقيق السلام بين إسرائيل ولبنان، وبين إسرائيل وسوريا، وإلى تحقيق سلام أوسع بين إسرائيل وجيرانها." دعونا نأمل أن يسعى أوباما لتحقيق هذا الهدف بنفس الطاقة والإمكانيات التي يخصصها في الوقت الراهن لما يمكن القول بشكل شبه مؤكد إنه حملة خاطئة ضد "القاعدة". وفي رأيي أن الطريقة التي يمكن بها هزيمة "القاعدة" تتمثل في إيقاف عمليات قتل المسلمين في المناطق القبلية في باكستان وأفغانستان. وثانياً إقناع -وإجبار عند اللزوم- إسرائيل بإنهاء احتلالها للأرض العربية واختيار السلام بدلًا من الحرب.