أدى رحيل "دومنيك ستراوس كان" من رئاسة صندوق النقد الدولي على خلفية فضيحة جنسية، إلى توفير فرصة وطرح تحدٍ أمام مجموعة الدول العشرين التي تضم الاقتصادات المتقدمة والصاعدة في تنافسها الحالي على اختيار رئيس جديد للصندوق. وتعد اللحظة الحالية لحظة تحول حرج للصندوق، إذ من المتوقع أن تتقدم الدول الصاعدة التي بقيت في الظل لفترة طويلة منذ إنشاء الصندوق في منتصف أربعينيات القرن العشرين، إلى موقع الصدارة في وقت قادم غير بعيد. لذلك، فإن تدشين عملية اختيار رئيس جديد لصندوق النقد الدولي سوف يكون بمثابة مفتاح، ليس فقط للشرعية المستقبلية للمؤسسة، ولكن أيضاً لفكرة الإدارة التعاونية للاقتصاد العالمي في حد ذاتها. لقد تمتع صندوق النقد الدولي دائماً بعمق تحليلي هائل. فتحت قيادة "ستراوس كان" الموهوبة، اكتسب الصندوق قوة مضافة، وسمعة طيبة، باعتباره مؤسسة مرسملة جيداً، وتتمتع بدافعية كبيرة، وذات أداء متفوق. وعقب الأزمة التي تعرض لها، بعد سقوط "ستراوس"، وجد الصندوق نفسه ملزماً بممارسة وظيفة جديدة هي "الإشراف والمراقبة" على استمرار العافية المالية لأنظمة الدول المهمة. بمعنى آخر، سوف يتحول الصندوق في إطار الوظيفة الجديدة إلى أمانة عامة خبيرة، تخدم مجموعة الدول العشرين في الوقت الذي تسعى فيه تلك الدول جاهدة لتنسيق سياساتها الرامية لتحقيق الاستقرار، والنمو، والاستدامة، في عالم لا تزال المصالح الذاتية تمثل عنصراً حاكماً فيه. وهناك حالياً عدد من المرشحين من الدول الأوروبية، ودول الاقتصادات الصاعدة ممن تتوافر فيهم الكفاءة، والخبرة، والمؤهلات اللازمة لممارسة، وللقيام بواجبات القيادة الفنية والسياسية للصندوق. وسياسة إدارة الاقتصادات المكبرة، التي تمارسها دول الاقتصادات الصاعدة لم تتحسن تدريجياً بمرور الزمن فحسب، ولكنها أصبحت ممتازة بمعنى الكلمة. فالتموضع المتميز لاقتصادات هذه الدول قبل نشوب الأزمة المالية الأخيرة، والاستجابة الفعالة في مرحلة "وسط الأزمة"، والسيطرة الجيدة في مرحلة "ما بعد الأزمة" على العجوزات المالية والديون السيادية، ناهيك عن القدرة الواضحة على استرداد العافية الاقتصادية... كلها عوامل تدعم ذلك الرأي. بل ويمكن القول في هذا السياق إن المرونة التي أبدتها الاقتصادات الصاعدة، في أعقاب التداعي الاقتصادي العالمي الذي حدث عامي 2008 و2009 كان موضع حسد دول الاقتصادات المتقدمة. من هنا يمكن الحصول على قائد من الطراز الأول للصندوق من بين هذه المجموعة من الدول، وذلك في حالة إذا لم تؤد المفاوضات بين الدول الأعضاء إلى التوصل لتسوية يتم بموجبها التوافق على شخصية ما (بصرف النظر عن الاستحقاق) كما حدث في الماضي في سياقات مماثلة (يجب تجنب مثل هذا الأمر الآن حيث لم تعد الظروف تسمح بذلك). وما أود التركيز عليه في هذا السياق، أن آلية الاختيار في حد ذاتها تكتسب أهمية فائقة. فالدول ذات الاقتصادات المتقدمة، باتت بحاجة إلى شراكة أو مشاركة الدول ذات الاقتصادات الصاعدة، في إدارة الاقتصاد العالمي، في الوقت الحالي وليس فقط في المستقبل حيث ستكون الأدوار والمراتب قد تحددت. فالحوكمة الجيدة الآن سوف تنتقل بالمثال والقدوة. والقيام الآن باستباق العملية المفتوحة الخاصة بالنظر في مؤهلات جميع المرشحين الحائزين على أعلى المؤهلات سوف يرسل رسالة خاطئة لمجموعة من الدول ذات معدلات النمو المرتفعة التي تزداد أهميتها في الاقتصاد الدولي على الدوام. ورغم أن مجموعة الدول العشرين الكبرى تمتلك العدد الأكبر من الأصوات، ومن حقها بالتالي المحافظة على نفوذها والسعي لإبرازه، فإن الرسالة الأقوى التي يمكنها إرسالها في الظروف الحالية للصندوق هي أن معيار الكفاءة والاستحقاق سيتقدم على أي معيار آخر أو أي حق مكتسب بحكم العرف. فلو بدأ الرئيس الجديد للصندوق عمله وهو يدرك بأن الدعم الذي يتمتع به من المجموعتين الكبيرتين في الصندوق، كتلة الدول الصناعية الكبرى وكتلة الدول الصاعدة، ليس دعماً متساوياً، وأن درجة الحماس الذي تقدم به المجموعتان هذا الدعم ليست واحدة، فإن ذلك سيضعف عمله، ويضعف المؤسسة كلها. والإشارة الرئيسية التي يتعين توصيلها حالياً تتعلق بكفاءة عملية الاختيار ذاتها وليس بنتيجتها. فمن حيث الجوهر، يجب أن يتم، في نطاق تلك العملية تقييم المرشحين موضوعياً بناءً على عدد من المعايير الفنية التي تتعلق بالتأهيل، والخبرة، والمقدرة على التعامل مع المشكلات المالية المتعددة الأشكال التي يواجهها الصندوق؛ مثل أزمة الديون السيادية في أوروبا، وتنشيط الطلب العالمي، واستعادة النمو واستدامته... وأيضاً على عدد من المعايير السياسية مثل المعرفة والقدرة على العمل في السياق الأوروبي حيث أن عدداً من دول أوروبا تعاني حالياً من مشكلات عديدة تتطلب تدخلاً عاجلاً من الصندوق. وقد اقترح العديد من المسؤولين في الدول المختلفة، أن يأخذ الصندوق وقته بحيث يتم إنجاز مهمة الاختيار على الوجه الأمثل بدلاً من العمل تحت ضغط تاريخ نهائي تعسفي. والشيء الذي يساعد على ذلك أن صندوق النقد يتمتع بالاستقرار الفني، والقدرات القيادية التي تمكنه من الاستمرار حتى في حالة غياب رئيسه. وبالطبع لن يمكن إجراء هذه العملية كلها علناً، فالشفافية في هذه الحالة لها حدودها. والمهم أن يحظى الاختيار بتأييد قوي من جانب دول الاقتصادات المتقدمة والصاعدة على حد سواء. فهذا تحديداً سيكون هو المؤشر على أن العملية قد نجحت حقاً، وهو ما سيشكل في حد ذاته أساساً صلباً للدعم المبدئي لقيادة الصندوق الجديدة. مايكل سبينس حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"