من منكم يستطيع حل عقدة الاتحاد الأوروبي التي تأزمت إلى درجة لا يمكن تصورها؟ خلال الأيام والشهور القليلة المقبلة سيرتهن مستقبل منطقة اليورو بالقرار الذي ستتخذه الأسواق المالية حول العالم، والحكم الذي ستصدره على سلسلة الإجراءات المعقدة التي اكتفت البلدان الأوروبية باتخاذها تحت ضغط الحكومات والرأي العام الذي لن يسمح بتجاوز المساعدات وعمليات الإنقاذ الحالية. فحكومة بعد أخرى وبرلمان تلو آخر، بدؤوا يرفعون أصواتهم الرافضة لإنقاذ الدول المتعثرة وتحمّل الأعباء وكأن لسان حالهم يقول: إلى هذا الحد وكفى. وفي ظل هذا التحفظ الذي تعبر عنه الشعوب والحكومات، تستمر الآراء ووصفات العلاج في التباين والاختلاف، فما تراه ألمانيا "ضرورياً" من شروط لإنقاذ منطقة اليورو، تنظر إليه اليونان على أنه "غير ممكن"، وما يقول ساركوزي بأنه "لابد منه"، تعتقد ميركل أنه "استحالة"، فيما الخط الأحمر الذي حددته سلوفينيا وحذرت من تجاوزه لا يشكل بالنسبة لإسبانيا سوى "الحد الأدنى" الذي سيتم تخطيه لا محالة! والمشكلة أن هذه الأصوات المتنافرة التي تسمح بها الديمقراطيات القومية في أوروبا، تواجهها قوة الأسواق المالية العابرة للقارات والدول، فقد شاهدت خلال هذا الأسبوع مباشرة على جهاز الكمبيوتر جلستين مذهلتين لبرلمانيين أوروبيين ضجتا بالنقاش حول مستقبل اليورو والإجراءات الملموسة التي تهم كل بلد على حدة، حيث عقد مجلس العموم البريطاني جلسته مساء يوم الإثنين الماضي، فيما بدأ البرلمان الألماني جلسة النقاش في ظهيرة يوم الأربعاء. وللوهلة الأولى بدا الاختلاف بين المجلسين كبيراً إلى درجة لا يمكن المصالحة بينهما، أو العثور على نقاط الالتقاء، فعلى الجانب البريطاني بدت المقاعد المصقولة لمجلس العموم بلونها الأخضر المخصصة للمعارضة، وفي المقابل برز الطابع المعاصر للبرلمان الألماني بلونيه الرمادي والأزرق وبشكله الذي يشبه الكرة الأرضية، وفيما صدح نواب حزب المحافظين بأصواتهم التي تقلد تشرشل وببدلاتهم المخططة ذات الطراز القديم، معبرين عن مواقفهم المشككة في الاتحاد الأوروبي. كان البرلمانيون الألمان ببدلاتهم الأنيقة وألوانها المتناسقة، يفصحون عن مخاوفهم من مستقبل اليورو ورفضهم تحمل المزيد من المسؤوليات. لكن ورغم هذا الاختلاف الظاهر والتباين الواضح في الأفكار، كان الموضوع المشترك بين المشرعين الألمان والبريطانيين هو الديمقراطية، فخلال النقاش احتد عضو الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني ووزير المالية السابق "فرانك والتر شتاينماير" على ميركل، واصفاً معاملتها للبرلمان الألماني بسبب موقفه من أزمة اليورو بأنه "وقح"، وهكذا انتصب عضو بعد آخر، بمن فيهم زعيم حزب "الخضر"، مع الضرب على المنصة في بعض الأحيان ليشددوا على ضرورة إخضاع أي إجراء تقوم به الحكومة الألمانية وتلزم من خلاله البلد بإنقاذ اليورو، للنقاش العام داخل قبة البرلمان وليس في مكان آخر. والأمر نفسه طالب به أعضاء مجلس العموم البريطاني. وفي المكانين معاً كان واضحاً أن السلطة الديمقراطية لاتخاذ القرارات فيما يتعلق بأوروبا تأتي من البرلمانات القومية وليس من البرلمان الأوروبي، وفي المكانين أيضاً كان بالإمكان سماع صدى الاستياء الشعبي كما تعبر عنه وسائل الإعلام وكما يظهر في ساحات الاحتجاج، سواء في لندن أو في أثينا. والمشكلة في الأصوات التي تتزاحم للفت الانتباه أنها تختلف تماماً مع ما تريده أصوات أخرى للشعوب الأوروبية. ولنأخذ خطاب ميركل كمثال فبعدما اعترفت متأخرة بتضحيات الشعب اليوناني الذي نال احترام ألمانيا، مضت قائلة إن مساعدة اليونان على حل مشكلاتها ستتطلب ليس فقط فرض "شروط صارمة"، بل أيضاً "ممارسة رقابة دائمة على اليونان". ولكم أن تتخيلوا وقع كلمة "الرقابة الدائمة" على أسماع اليونانيين، ثم بعدها رفضت رفضاً قاطعاً فكرة تحويل البنك المركزي الأوروبي إلى مصرف يقدم القروض على غرار الاحتياطي الفدرالي الأميركي، كما عارضت الوجهة التي تريد فرنسا للاتحاد الأوروبي أن يسير فيها والمتمثلة في إصدار سندات أوروبية لطمأنة الأسواق على استثماراتهم. وبسرعة خاطفة انتقلت ميركل للحديث عن تعديل معاهدات الاتحاد الأوروبي لإدراج كل هذه التغييرات، وهو ما حدا بحكومة كاميرون إلى الإصرار على تنظيم استفتاء حول وضع بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إذا ما تغيرت المعاهدات المنظمة للاتحاد، فهل يعبر الموقف البريطاني عن تخوف مما قد يحمله الاتحاد الأوروبي المعدل؟ لا شك أنه يعبر عن ذلك، لاسيما في ظل حديث ميركل عن فرض ضريبة على المعاملات المالية في البورصات التي حتماً لن تُرضي المحافظين البريطانيين ولا مموليهم الرئيسيين في السوق المالي بلندن. وهل تعني هذه الإجراءات الألمانية التي تغضب الشركاء الأوروبيين أنها موجهة أكثر إلى الداخل الألماني لإقناعه بإنقاذ الدول المتعثرة؟ بالطبع هي كذلك، لاسيما للضغط على الدول التي لا ترغب في التقيد بشروط الإنقاذ في إشارة قوية إلى بيرلسكوني الذي مازال يراوغ. وهنا أرجو ألا تخطئوا قصدي، فأنا لست ضد النقاشات البرلمانية حول مستقبل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، ولا أدعو إلى وقف التداول بشأنها، بل على العكس من ذلك، أرى أن النقاش الديمقراطي تأخر كثيراً، ففي ألمانيا تمت التغطية على الشكوك تجاه الاتحاد الأوروبي بدعوى الاستقامة السياسية، أما في بريطانيا فأعتقد بضرورة تنظيم الاستفتاء لتحديد موقع بريطانيا في البناء الأوروبي. والأمر لا يقتصر فقط على دفاعي عن النقاش الحر والديمقراطي في البرلمانات الأوروبية، بل أيضاً لأني على يقين بأنه في النهاية، ورغم كل الآراء المشككة في الاتحاد الأوروبي، سيجنح الرأي العام إلى إنقاذ الصرح الأوروبي. لكن المعضلة الأساسية حالياً، هي أنه لا أحد يستطيع إقناع الأسواق بانتظار الاستفتاءات والنقاشات البرلمانية، وفي أي لحظة يستطيع المستثمرون سحب البساط من السندات الإسبانية والإيطالية وحتى الفرنسية. والمفارقة العجيبة أن المستثمرين يفعلون ذلك بدعوى الحفاظ على مصالح المنخرطين في صناديق التقاعد الأوروبية، بمعنى آخر المصالح والامتيازات التقاعدية طويلة الأمد للناخبين الذين يقفون اليوم ضد الحلول المقترحة لإنقاذ الاتحاد الأوروبي والتي من دونها لن تهدأ الأسواق ويطمئن المستثمرون الذين هم من يشترون السندات ويمولون معاشات الأوروبيين. تيموثي جارتون آش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ الدراسات الأوروبية بجامعة أوكسفورد ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم سي تي إنترناشونال"