في عام 2009، وأثناء خطابه الأول أمام الجلسة المشتركة لمجلسي الكونجرس، دافع أوباما عن ميزانية مقترحة قال إنها ستسخدم كمخطط لمستقبل البلاد، يقوم على الاستثمارات الطموحة في مجال الطاقة، والرعاية الصحية، والتعليم. وفي ذلك الخطاب قال الرئيس الجديد حينها: «هذه هي أميركا... التي لا تميل لفعل الأشياء السهلة». وبعد مرور أربعة أعوام على ذلك الخطاب نجد أن ما كان الرئيس يراه سهلاً في ذلك الحين قد بات مستحيلاً الآن. ففي خطابه عن حالة الاتحاد، ناشد أوباما الشعب الأميركي قائلا: «دعونا نتفق هنا والآن على المحافظة على انفتاح الحكومة، ودفع الفواتير المستحقة علينا في الموعد المحدد، والمحافظة على ما تتمتع به الولايات المتحدة من ثقة كاملة»! وباضطراره لحث الكونجرس على القيام بوظائف الحكم الأكثر بساطة، فإن أوباما الذي خرج لتوه سالماً من الهاوية المالية، والذي يخوض في الوقت الراهن مواجهة مع صناع القوانين حول الحجم الهائل للاقتطاعات التلقائية، كشف إلى أي مدى باتت صلاحيات المنصب الأقوى في العالم كله، محدودة. ولا يقتصر الأمر على واشنطن وحدها؛ فها نحن نرى الثورة السورية التي أوشكت خلال أيام معدودات على الوصول إلى ذكرى انطلاقتها الثالثة، وهي تذكرنا بأن المجتمع الدولي قد أخفق في اتخاذ الإجراءات اللازمة التي كان يمكن أن توقف نزيف الدماء. كما نرى إيطاليا وهي لا تزال تعاني من حالة الانسداد السياسي التي ظلت قائمة بعد الانتخابات الأخيرة غير الحاسمة، التي زجت بالبلاد في دورة أخرى من دورات عدم اليقين السياسي والاقتصادي. وكذلك فإن الجولة الأخيرة من محادثات المناخ لم تجعل العالم أكثر قرباً من حل مشكلة التغير المناخي. وهكذا نرى أن السلطة باتت غير قادرة على شراء ما كانت تشتريه من قبل... وليس هذا فحسب بل يمكن القول دون مبالغة إن فكرة السلطة كقوة تتآكل. فعلى رغم أن الحصول عليها قد أصبح أسهل إلا أن خسارتها كذلك باتت أسهل وأسرع في الآن ذاته. ولكن ما السبب الذي أوصل السلطة إلى حالتها الحالية؟ يرجع ذلك إلى أسباب يمكن إجمالها فيما يلي: إن هناك في الوقت الراهن تنافساً أكثر على السلطة مقارنة بما كان عليه الحال في الماضي، علاوة على أن السلطة تتراجع في مختلف المعتركات العالمية، وفي قاعات مجالس إدارات الشركات في كل مكان. في دراسة أجراها «إيفان أرجوين- توفت» أستاذ العلوم السياسية عام 2001 وجد أنه خلال الحروب اللامتكافئة التي اندلعت خلال السنوات 1800-1849 تمكن الطرف الأضعف (من ناحية التسليح وأعداد القوات) من تحقيق أهدافه الاستراتيجية في 12 في المئة من الحالات. أما في الحروب غير المتكافئة التي اندلعت بين السنوات 1950-1998، فقد تمكن الطرف المفترض أنه أضعف من تحقيق أهدافه الاستراتيجية بنسبة 55 في المئة من الحالات. وينطبق ذلك أيضاً على السلطة المؤسسية: علينا هنا أن نتذكر عبارات مأثورة مثل «إن ما هو جيد بالنسبة لجنرال موتورز لابد أن يكون جيداً للولايات المتحدة»، وأن نتذكر أيضاً عندما كانت شركة «آي بي إم» تهيمن منفردة على سوق الحواسيب؟ لم يعد هذا هو الحال الآن بالنسبة للشركتين. وليس هناك شك أن رئيسي الولايات المتحدة والصين ورئيس مجلس إدارة مؤسسة «جيه بي مورجان تشيس» و«شل أويل» ما زالوا يحوزون سلطة غير محدودة، إلا أن تلك السلطة على رغم عدم محدوديتها، تعد أقل كثيراً مقارنة بالسلطة التي كانت بأيدي أسلافهم. ففي الماضي لم يكن رؤساء مجالس إدارات الشركات يواجهون ما يواجهونه حالياً من قيود، ومحددات، وتحديات نتيجة لزيادة الوعي السياسي لدى الجماهير، ومراقبة وسائل الإعلام على مدار الساعة، واتساع نطاق الأسواق المالية في مختلف أنحاء العالم. والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لا تؤدي في حد ذاتها لتآكل السلطة، لأن تقنيات المعلومات الجديدة والمتطورة عبارة عن أدوات -لا خلاف على أهميتها- ولكن تلك الأدوات، كي يكون لها تأثير، تحتاج إلى مستخدمين يحتاجون هم أيضاً بدورهم إلى اتجاهات ودوافع. وعلى المنوال نفسه يمكن القول إن تآكل السلطة لا علاقة له بالأفول المفترض للقوة الأميركية، وصعود الصين، وهي العلاقة التي يتم استدعاؤها دائماً في النقاش حول تآكل القوة وهو نقاش أرى أنه عقيم وممل في الحقيقة. ومن وجهة نظري أن أكبر التحديات للقوة التقليدية قد جاءت أساساً من التحولات الكبرى في أسس الحياة ذاتها: في الطريقة التي نعيش بها، وأين نعيش، وإلى أي مدى، وبأي مستوى من الجودة. وهذه التغييرات يمكن نسبتها إلى ثورات متزامنة: ثورة الكم. حيث زاد كم كل شيء في القرن العشرين بدءاً من تعليم الناس إلى المنتجات الموجودة في الأسواق إلى الأحزاب السياسية، إلى عدد سكان العالم الذي تضاعف أربع مرات خلال المئة سنة الأخيرة. والثورة الثانية هي الثورة التنقلية: هناك في الوقت الراهن زيادة كبيرة للغاية في أعداد الناس الذين ينعمون بمستويات أفضل من المعيشة، والذين يتنقلون من مكان إلى آخر على نحو أيسر من السابق، مما يجعل السيطرة على حركتهم والتحكم فيهم أمراً تزداد صعوبته على الدوام. والثورة الثالثة هي الثورة العقلانية: فقد تعرض السكان الذين لا يتوقفون عن الاستهلاك، ويتنقلون على الدوام، والذين باتت لديهم قدرة على الوصول للموارد والمعلومات أكثر من ذي قبل، لعملية تحول عاطفي ومعرفي هائلة. وهذه الثورات الثلاث تساهم معاً في تآكل الحواجز التي كانت تحمي الأقوياء، وأصحاب النفوذ من التحديات، وكلما زاد عدد الثورات -وهو الأمر المرجح- كلما أصبحت قادرة على جعل التحديات تتغلب على الحواجز. إن الحجم الآن لم يعد قريناً للقوة؛ والبيروقراطية اليوم لم تعد تعني السيطرة، والألقاب لم تعد تعني السلطة والجاه. وإذا ما كان مستقبل السلطة يكمن في التعطيل والتدخلات، وليس الإدارة والتمكن، فهل في مقدورنا، والحال هذه، أن نأمل في رؤية الاستقرار ثانية؟ مواسيه نعيم مشارك رئيسي في مؤسسة «كارنيجي» للسلام الدولي، ورئيس التحرير السابق لمجلة «فورين بوليسي» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»