إلى جانب الإطارات المحترقة والجثث في الشوارع، في ما يلي أشياء باتت على المحك في دراما التمرد الأوكرانية. مستقبل أوكرانيا كدولة -أمة مستقلة: احتدام العنف في إحدى الدول، والذي مازال لا يرقى إلى مستوى حرب أهلية، يمكن أن ينحى منحيين مختلفين جداً. فهو يمكن أن يفكك البلاد ويمزقها، مثلما يحدث في سوريا وحدث قبل ذلك في يوغسلافيا، ويمكن أن يلحمها ويعزز تماسكها مثلما حدث في جنوب أفريقيا، في حال تعاضد الناس وتعاونوا على الابتعاد عن الحافة. وغني عن البيان أن الدولة- الأمة لديها هوية وطنية مشتركة وليست هوية وطنية عرقية واحدة. والواقع أن أحد الأسباب التي تفسر لماذا شهدت أوكرانيا هذه الفوضى العارمة خلال الأشهر الأخيرة، هو أن أوكرانيا، ورغم أنها دولة مستقلة منذ أكثر من عقدين، ليست دولة ناجحة بالكامل، مثلما أنها ليست دولة مكتملة بالكامل. وبالتالي، فأن نستعمل عبارة «القانون والنظام» لوصف ما حدث في أوكرانيا الأسبوع الماضي سيكون ضرباً من السريالية. وعلاوة على ذلك، فإن الإدارة والبرلمان والاقتصاد لا تشبه نظيراتها الموجودة في دولة أوروبية عادية. ذلك أنها مخترقَة ويتم التلاعب بها لدرجة لا تصدق من قبل الأوليجارشيين، والمقربين، وعائلة الرئيس. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أفادت النسخة الأوكرانية من مجلة «فوربس» أن نجل يانوكوفيتش، وهو طبيب أسنان، فاز بـ50 في المئة من كل عقود الدولة في يناير الماضي. وهذا، بالإضافة إلى وحشية الميليشيات، هو ما أثار سخط الكثير من الأوكرانيين ما ضحى بعضهم بأرواحهم من أجل تغييره. غير أنه إذا كتب لاتفاق الأسبوع الماضي، حول تشكيل حكومة ائتلافية، وإصلاح دستوري لإعادة صلاحيات أكثر إلى البرلمان، وإجراء انتخابات رئاسية قبل نهاية العام، إذا كتب لذلك الاتفاق الصمود، فإن الأيام الدموية الماضية سيذكرها التاريخ باعتبارها فصلاً حاسماً في مسيرة أوكرانيا نحو الدولة- الأمة. وإلا، فإن مزيداً من التفكك سيلوح في الأفق. مستقبل روسيا كدولة- أمة أو كإمبراطورية مع أوكرانيا، تظل روسيا إمبراطورية، وبدونها، تملك روسيا نفسُها فرصة لتصبح دولة -أمة. غير أن مستقبل أوكرانيا مهم بالنسبة لهوية روسيا الوطنية أكثر من أهمية اسكوتلاندا بالنسبة لهوية إنجلترا الوطنية. وإذا كان الناس الذين عاشوا في الأراضي التي تُعرف الآن بأوكرانيا قبل عدة قرون خلت هم الروس الأصليون، فإن الناس الذين يسمون أنفسهم أوكرانيين هم الذين سيشكلون ملامح تعريف ما هو روسيا اليوم. مستقبل فلاديمير بوتين: كونستانتين فون إيجرت، وهو صحفي روسي مستقل، لفت ذات مرة إلى أن أهم حدث في السياسة الروسية خلال العقد الماضي لم يحدث في روسيا، بل في أوكرانيا. إنه «الثورة البرتقالية» التي وقعت في عام 2004، والتي بدت بالنسبة لنظام بوتين الأكثر تهديداً في موجة الثورات الملونة التي شهدتها بلدان أوروبا الوسطى بداية من عام 1989 واستمرت 15 عاماً. وهكذا، طوَّر «خبراء التكنولوجيا السياسية» المحيطون ببوتين تقنيات للتصدي للثورات الملونة، وقد شمل تلك التقنيات أساليب من القمع بطبيعة الحال، لكن الكثير من المال أيضاً، و«المنظمات غير الحكومية المسيرة من قبل الحكومات»، واستغلال وسائل الإعلام للتأثير في الرأي العام... كل ذلك كان ضمن ترسانة التكنولوجيا «السياسية» الجديدة. وعندما تغلب بوتين على عرض الشراكة الذي قدمه الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا بـ15 مليار دولار، بعث خبير روسي في «التكنولوجيا السياسية»، يدعى مارات جيلمان، بتغريدة على «تويتر» يقول فيها: «ساحة الاستقلال بيعت بـ15 مليار دولار، إنها أغلى قطعة فنية على الإطلاق» (وساحة الاستقلال في كييف هي بؤرة الاحتجاجات). بيد أن الأمور لم تمض مثلما كان مخططاً لها. فقد التقى بوتين ويانوكوفيتش في سوتشي الروسية، ويوم الاثنين، أفرجت روسيا عن مزيد من الـ15 مليار دولار التي تعهدت بها لكييف. ويوم الثلاثاء، شرعت ميليشيا يانوكوفيتش في استعمال الذخيرة الحية ضد المحتجين اليائسين على نحو متزايد والعنيفين أحياناً. والواقع أن حقيقة أن بوتين كان مستعداً للمجازفة ومواجهة التداعيات الدولية لتطورات أوكرانيا، حتى ولو كان ذلك خلال أولمبياد سوشي العزيزة إلى قلبه، إنما يكشف إلى أي مدى تعتبر أوكرانيا أساسية وحيوية بالنسبة له. وإذا كان بوتين قد قام بانسحاب تكتيكي أمام الحقائق التي على الأرض اليوم، فعلينا ألا نكون واهمين ونعتقد أنه سيكف عن التدخل في أوكرانيا. مستقبل أوروبا كقوة استراتيجية: الموضوع الاستراتيجي هنا ليس هو ما إذا كانت أوكرانيا ستنضم إلى أوروبا أم روسيا، بل هو ما إن كانت أوكرانيا ستستطيع الاندماج على نحو متزايد ضمن المجموعة السياسية والاقتصادية الأوروبية، مع الحفاظ على علاقة وثيقة جداً مع جارتها الكبرى روسيا. وهو أيضاً ما إن كان الاتحاد الأوروبي سيدافع عن القيم الأوروبية الأساسية على عتبة بابه، أم أنه سيفشل في ذلك مثلما فشل في القيام به حيال البوسنة قبل 20 عاماً من الآن. لقد بات من الواضح الآن أن الاتحاد الأوروبي أساء التقدير من خلال تحديده مهلة من نوع «إما هم أو نحن» تنتهي الخريف المقبل، بدون أن يقدم لأوكرانيا المساعدات المالية العاجلة التي هي في أمس الحاجة إليها أو عرض إمكانية واضحة وأكيدة لنيلها عضوية الاتحاد الأوروبي. ومثلما لفت إلى ذلك الخبير في الشأن الأوكراني آندرو ويلسون، فإن الاتحاد الأوروبي يشبه ذلك الشخص الذي يقال إنه أخذ معه خبزاً فرنسياً إلى معركة بالسكاكين. ومع ذلك فإن الاتحاد الأوروبي أبلى في الأسابيع الأخيرة بلاءً حسناً. فالاتفاق الذي وُقع بالجمعة شكل نجاحاً حقيقياً للدبلوماسية الشخصية لوزراء الخارجية الألماني والبولندي والفرنسي، كما مثلت الموافقة على الإفراج عن يوليا تيموشينكو مؤشراً إيجابياً آخر على نجاعة جهوده. لكن هل تتمتع أوروبا، التي أضعفتها أزمة منطقة اليورو، بالتصميم والخيال الاستراتيجي على المدى الطويل؟ ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»