مذكرات مرتقبة، وتكهنات بشأن خوض سباق الرئاسة، وأعداء يؤججون فضيحة، وأصدقاء يدافعون عن ميراث هيلاري.. لعل هذه أهم سمات «عالم هيلاري كلينتون» في الوقت الحالي. ومع نشر مذكرات وزيرة الخارجية السابقة، «خيارات صعبة»، من المرجح أن يزداد الجدل الدائر بشأن الأعوام التي قضتها في المنصب، أكثر من أي شخص آخر شغل ذلك الموقع. لكن كيف نقيّم أداء كلينتون كوزيرة للخارجية، لاسيما أن المؤشرات التقليدية، مثل المعاهدات البارزة، والنهج الجديد، والاتفاقات الموقعة.. تكاد تكون دلائل باهتة لتقييم منزلة الدبلوماسيين الأميركيين. وقلما تتحقق المصالح الأميركية عندما يطوف الدبلوماسيون الأميركيون بلا كلل أو ملل مشارق الأرض ومغاربها، أملاً في لحظة الفوز بجائزة نوبل. وعند الحكم على هيلاري، ينبغي أن نتذكر أن وزراء الخارجية لا يتحكمون في السياسة الخارجية الأميركية، ولم تكن هيلاري تطبق استراتيجيتها، وإنما كانت وظيفتها قاصرة على تنفيذ أفكار الرئيس أوباما. لذا، فأي تقييم مفيد وعادل لسجل هيلاري في المنصب، ينبغي أن يأخذ في الحسبان بعض القضايا المعقدة، مثل كيفية فهمها لتداخل قوة الولايات المتحدة ومصالحها ومواردها وقيمها، وترجمتها لتلك الرؤية في سياسات تحظى بتأييد الحكومة لتنفيذها، ومدى ثقة الرئيس فيها وحفاظها على تلك الثقة، ومدى فعالية أفكارها السياسية، وكيفية إدارتها للظروف الحتمية، عندما مضت الأمور على غير ما يرام. ويرتكز فهم كلينتون لتداخل قوة الولايات المتحدة ومصالحها ومواردها وقيمها على اثنتين من الأفكار الأميركية الكبرى. الفكرة الأولى: إيمانها بأن أفضل طريقة لتحقيق المصالح الأميركية هي تبني الاستراتيجيات البريطانية التقليدية المتمثلة في القوة البحرية، والتوسع التجاري والتركيز على المسارح الاستراتيجية في السياسات العالمية. وتعتقد هيلاري أن آسيا هي المكان الذي سترتبط به المصالح الأميركية الحيوية على المدى الطويل، ولذلك طالبت بمزيد من التركيز على هذه المنطقة في السياسات الأميركية الخارجية. وبالطبع، فالسعي إلى توازن القوى في آسيا سيركز بصورة طبيعية على الصين، غير أن كلينتون كانت واقعية في اعتقادها بأن الولايات المتحدة يمكنهما التوصل إلى تسوية حقيقية ترتكز على المصالح الاقتصادية والرغبة المشتركة في تفادي الحرب. ولم تكن الفكرة التقليدية الأنجلو أميركية وحدها هي ميراث كلينتون من الماضي، وإنما يحدوها أيضاً التفاؤل بشأن الولايات المتحدة، وذلك ما اكتسبته من التقاليد الدينية الميثودية التي نشأت عليها. وظلت روح البعثات التبشيرية في القرن التاسع عشر التي كانت تجوب العالم من أجل الترويج للتنمية وحقوق الإنسان والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، تعيش داخل كلينتون، وتشكل أفكارها الأساسية بشأن أهداف القوة الأميركية. وجعل هذا المزيج من الأفكار هيلاري من الأميركيين المؤمنين بالاستثنائية الأميركية، وبأن الولايات المتحدة قدّر لها أن تلعب دوراً فريداً في قيادة العالم، وأن الحكومة والشعب الأميركيين يمكن أن يكونا أداتين قويتين للخير. ورغم أن كلينتون لم تنتصر في كافة المعارك التي خاضتها، إذ رفض الرئيس مشورتها بشأن سوريا وأخفقت في إقناعه بدعم جهود هولبروك في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان، فقد أدارت العلاقة بنجاح، وحظيت بثقة أوباما بدرجة جعلته يرغب في بقائها في فترته الثانية. ولم تكن هذه الثقة هبة، وإنما بدأ ارتباط هيلاري بأوباما في منافستهما الشرسة على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي عام 2008، ويشهد نجاحها في بناء علاقة قوية مع رئيس لم يعرف عنه قبول أصدقاء جدد، بأن لديها مهارات رائعة في إدارة العلاقات. وبالمثل، ضمنت علاقاتها القوية مع وزير الدفاع السابق روبرت جيتس ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق ديفيد بيترايوس، عدم انعزال وزارة الخارجية عن العملية السياسية. ورغم رفض بعض الوزارات، كانت كلينتون أكثر نجاحاً من سابقيها في تأكيد رأي الخارجية في المناقشات الخاصة بالدبلوماسية الاقتصادية ومكافحة الإرهاب، واعتمدت على تلك العلاقات في تعظيم تأثيرها على السياسات الخارجية الأميركية. وكانت هيلاري وزيرة خارجية مؤثرة ومديرة ذكية لها أجندة واضحة، استطاعت ترجمتها إلى سياسات. ولعل المؤرخين سيعتبرون أن كلينتون كانت أكثر نجاحاً من وزراء آخرين، مثل جيمس بلين أو كورديل هول. فقد دافعت بقوة عن قرار أوباما مهاجمة مقر بن لادن، رغم خطورة القرار، كما أدى تركيزها على آسيا، ووصف العلاقة معها بـ«المحورية»، إلى تنشيط تحالفات واشنطن مع عواصم الباسيفيك، غير أنها حفزت عداء الصين، التي اتخذت موقفاً أكثر صرامة مع اليابان والفلبين وفيتنام منذ أن ظهر «المحور». ومكنت «استعادة العلاقات» مع روسيا من التعاون القوي بشأن برنامج إيران النووي، وكذلك بشأن قرار التفويض بالتدخل في ليبيا ضد نظام القذافي، لكن من الصعب زعم أن علاقات واشنطن وموسكو أصبحت في وضع جيد. وفي مذكراتها، تسلط هيلاري الضوء على محاولتها إعادة توجيه السياسات الخارجية الأميركية نحو «القوة الذكية» من أجل التكامل بين الأدوات العسكرية والسياسية والاقتصادية، مع التقارب الشعبي وجهود تعزيز المجتمع المدني.. لكن هذه الطريقة أفضت أيضاً إلى نتائج متباينة. وقد أفضى التقارب مع ميانمار إلى إصلاحات سياسية، وساعد على تقريب واحدة من أوثق حلفاء الصين إلى الفلك الأميركي، وكان ذلك نجاحاً مهماً. لكن المشكلات المستمرة في ميانمار، وخصوصاً العنف الوحشي ضد أقلية الروهينجا المسلمة، أظهرت صعوبة إحداث التكامل بين حقوق الإنسان والاستراتيجية الجيوسياسية التقليدية. وإذا كانت ميانمار قصة نجاح لنهج كلينتون، فإن أكبر مشكلة في ميراث هيلاري تتمثل في النتائج البائسة لإطاحة القذافي بدعم أميركي، إذ أخفق المدافعون عن المهمة في ليبيا في الاستفادة من أهم دروس حرب العراق: وهو أنه بعد إطاحة ديكتاتور لابد من توقع الفوضى والعنف. وقد عززت الفوضى في ليبيا، علاوة على إفضائها إلى هجوم بنغازي الذي حاصر هيلاري في تحقيقات الكونجرس ونظريات المؤامرة، الأصوات المعارضة لتبني السياسات النشطة التي نادت بها كلينتون حول سوريا. وحكم على كلينتون أنها قدمت رؤية واضحة بشأن المصالح الأميركية في منصبها، وسيجد الرؤساء ووزراء الخارجية الأميركيين في المستقبل أن كثيراً من أفكارها مهمة وجوهرية، لكنها تعثرت في جمع عناصر رؤيتها وترجمتها في مجموعة متماسكة من السياسات. والتر راسل ميد أستاذ الشؤون الخارجية في كلية «بارد» الأميركية يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»