في الأسبوع الماضي تشعب الطريق الممتد من فضيحة انتهاك آدمية السجناء العراقيين في أبو غريب إلى طريقين مختلفين غاية الاختلاف. ففي "فورت هوود"، بولاية تكساس جلس" تشارلز جرانر"، جندي الاحتياط بالجيش الأميركي، صامتاً ينظر إلى ما حوله في الوقت الذي كان أعضاء هيئة المحلفين يأخذون فيه أماكنهم في مقاعدهم، استعدادا لمحاكمته عسكرياً.
وهنا في واشنطن جلس "ألبيرتو جونزاليس" لحضور جلسة اعتماد تعيينه رسمياً كوزير عدل بواسطة اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ الأميركي. في تكساس كان "جرانر" وهو قائد المجموعة التي قامت بتعذيب المساجين العراقيين في أبوغريب، والتي تم التقاط صور لها وهي تقوم بذلك، قد أخبر الصحفيين بأنه يشعر بالتفاؤل وقال بنبرة متحدية متفائلة ذات تلميح سياسي:"إن الشمس لا تزال تشرق، والسماء زرقاء، ونحن في أميركا".
والحقيقة أنه بدا وهو يقول ذلك مثل سياسي يقل عن منافسه في الانتخابات بفارق 20 نقطة، ومع ذلك لا يزال يصر على أن هذا الفارق قابل للتعويض. وحسبما يقال فإن "جرانر" يخطط في دفاعه للادعاء بأن كل ما كان يقوم به في "أبوغريب" إنما تم بموجب أوامر صادرة إليه، أي أنه يريد أن يلقي مسؤولية ما حدث في "أبو غريب" على المسؤولين الذين هم فوقه في "سلسلة القيادة".
واحتمال نجاح مثل هذا الأسلوب في الدفاع قد يكون صعباً... لماذا؟، لعدة أسباب أولها، أن الصور لا تكذب، فإذا ما كنت قد قمت بارتكاب فظائع بناء على أوامر، أو لأنك كنت تعتقد أنه مطلوب منك أن تقوم بذلك، فإن تلك الصورة تعتبر دليل إدانة ضدك، يثبت ليس فقط أنك قد قمت بارتكاب انتهاكات بل أنك قد قمت بارتكابها وأنت ترسم ابتسامة عريضة على وجهك كما بدا في تلك الصور.
ثانياً، إن إلقاء التهمة على سلسلة القيادة، ليس من الاستراتيجيات المقبولة أو القابلة للنجاح في أميركا هذه الأيام. وكل ما كان يحتاجه المرء للتدليل على ذلك هو أن يشاهد جلسات اعتماد تعيين "جونزاليس" التي جرت الأسبوع الماضي. فجونزاليس الذي كان يعمل مستشاراً لبوش قبل اختياره للتعيين في منصب وزير العدل، واجه بعض الأسئلة الصعبة من الشيوخ الأميركيين.
ففي يناير 2002 كتب جونزاليس مذكرة تقول إن الإرهابيين الذين يتم القبض عليهم في الخارج لا يستحقون الحماية القانونية التي تسبغها عليهم اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب، لأن تلك الاتفاقية قد أصبحت" عتيقة" و"بالية" في الحرب "الجديدة" على الإرهاب. علاوة على ذلك تضمنت مذكرة أخرى موجهة إلى جونزاليس في أغسطس 2002 تعريفاً ضيقاً للتعذيب يحصره في "التسبب في ألم مبرح ولا يحتمل للسجين".
ويذهب البعض إلى القول- وبشكل مقنع في الحقيقة- إلى أن مثل تلك المذكرات الصادرة من قمة الإدارة، هي التي هيأت المناخ للطريقة التي تم بها التعامل مع السجناء في أفغانستان، وجوانتانامو، والعراق. وفي هذا السياق يقول السيناتور لندساي جراهام – وهو ليس رجلا حالماً أو من المحسوبين على دعاة السلام: إن مذكرة أغسطس التي تضمنت تحديد توصيف ضيق للتعذيب قد أحبطت الجهود الأميركية في العراق، وتسببت في فقدان القوات الأميركية في ذلك البلد للسمعة الأخلاقية التي كانت تدعي امتلاكها. وأضاف لندساي قائلا في نبرة أسى: أعتقد أننا قد ضللنا طريقنا هناك.
ولكن كيف كان رد فعل "جونزاليس" بشأن تلك النقاط عندما تم استجوابه من قبل أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي؟ أولا، أكد جونزاليس للشيوخ أنه لم يعتبر اتفاقية جنيف بشأن الأسرى"بالية" أو "عتيقة". ثانياً، بخصوص إعادة تعريف مفهوم التعذيب قال إنه لا يتذكر ما إذا كان هو الذي أوعز بصياغة المذكرة على النحو الذي صيغت به أم لا.
هل هذا كلام يمكن أن يقال في أميركا وفي واشنطن التي يعتبر فيها مبدأ المساءلة هو المبدأ المهيمن؟!. ولم يتوقف جونزاليس عند ذلك فحينما تم توجيه سؤال بسيط إليه هو: قل لنا بشكل محدد هل أنت الذي أمرت بكتابة تلك المذكرة أم لا؟ أصر على التمسك بـ"أنه لا يتذكر".
وما هي المحصلة النهائية لكل الأسئلة "وعدم الإجابات" في هذه الجلسة؟ يمكن القول إنه لا محصلة هناك في الواقع، لأن الجميع سواء من يؤيدون تعيين الرجل أو يعارضون ذلك يعرفون أنه لابد من أن تتم الموافقة على تعيينه في نهاية المطاف.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما هي تداعيات ما حدث في "أبوغريب" على هذين الرجلين؟ الأرجح أن "جرانر" يتأهب لقضاء فترة طويلة في السجن وهو يستحق ذلك. في نفس الوقت فإن واحداً من الرجال الموجودين في قمة الحكم، والذي ساعد على تأسيس تلك السياسة التي ساهمت في الانتهاكات التي حدثت ليس في سجن "أبوغريب" فقط وإنما في جوانتانامو، بل – وفقاً لبعض التقارير- في بلاد أخرى حول العالم يجب أن يستعد لتعرض لحملة تشهير كبرى.
وهذا الأمر ليس جديداً في الحقيقة. ففي الواقع أن السنوات الأربع لإدارة بوش لن يتم تذكرها على أنها فترة قام المسؤولون فيها بتحمل المسؤولية بشجاعة عن الأخطاء التي ارتكبوها، أو حتى قاموا بالاعتراف بهذه الأخطاء