«لن أذهب إلى أي مكان بعد الآن من دون جواز سفري الإيرلندي، فأنت لا تعرف أبداً ما الذي يمكن أن يحدث»! هكذا قال لي صديقي البريطاني، الذي بدا سعيداً للغاية بجنسيته المزدوجة. فمنذ انتصار دعاة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «البريكسيت»، في الاستفتاء الذي جرى في يونيو 2016، يحمل صديقي -بفخر- هذا الجواز معه في كل وقت، وجميع المناسبات، كشكل من أشكال التأمين ضد أي تدبير لاعقلاني مفاجئ. وصورة القيثارة المرسومة على غلاف جواز سفره الإيرلندي، تمنحه فرصة ثانية، للبقاء كمواطن أوروبي بالكامل: فإذا ما وجد أن الأمور قد ساءت في لندن، فسيظل قادراً دائماً على طلب «المأوى» في دبلن. وبعد الصفقة الأولية «جداً» بين بريطانيا، والاتحاد الأوروبي، لم يعد صديقي البريطاني- الإيرلندي، يعرف كيف يفكر. فهو من ناحية، لا يملك سوى التسليم بالانفصال، الذي قطع شوطاً بالفعل، ومن ناحية أخرى، يريد أيضاً أن يستمر في الاعتقاد أن كل شيء لا يزال مطروحاً على الطاولة، لأن القاعدة المعمول بها في المفاوضات، هي أنه لا شيء يحسم، إلا بعد أن تتم تسوية كل شيء. أما في الواقع العملي، فإن مسألة مثل تلك الخاصة بالحدود الفعلية القائمة بين إيرلندا الشمالية، وجمهورية إيرلندا، أي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما زالت تمثل معضلة، يخشى أن تصبح المعادل الموضوعي في أوروبا القرن الحادي والعشرين لمعضلة التنازع بين الدانمارك والاتحاد الألماني على ضم ولاية «شلسفيج هولشتاين» في أووربا، القرن التاسع عشر. ومن الجليّ أن صديقي قد بات ممزقاً بين مشاعر الخوف والأمل. والأمل هنا هو أن التهديد بالفوضى، الذي مازال معلقاً على نتائج المفاوضات، مثل سيف ديموقليس في الأساطير الإغريقية، هو الذي سيجبر البريطانيين في النهاية على إعادة النظر في اختيارهم. وبطبيعة الحال، لن تبدو احتمالات حدوث ذلك جيدة للغاية. ولكن بريطانيا يمكن أن تجد أيضاً في كاتبها المحبوب شكسبير، ومسرحياته العديدة، نماذج لكافة أحوال وملابسات الحياة وصروفها المتغيرة. وفي هذه الحالة بالذات، فإن عبارة مثل عبارة «أسمع جعجعة كثيرة ولكني لا أرى طحناً»، تبدو بالتأكيد أفضل كثيراً من الفوضى، التي ستنتشر حتماً -وإن ببطء- في حالة الخروج النهائي. أما الخوف الذي ينتاب صديقي، فيما وراء «الأمل في الفوضى» فهو أقرب إلى الواقع، ويتمثل في الخوف من «خروج بريطانيا الناعم» من الاتحاد الأوروبي، والذي من شأنه أن يتركها في موقف مشابه لموقف فرنسا في الاتحاد الأوروبي، فيما يتصل بعلاقتها مع «الناتو» تحديداً، بعد إعلان الرئيس الزسبق شارل ديجول لانسحابها من الحلف العسكري، حيث ما زالت تعاني من نفس القيود التي فضلت الانسحاب من الحلف بسببها، في حين لم يعد لديها أي رأي في عملية اتخاذ القرار فيه. وفي حالة بريطانيا، سيكون الخروج الناعم حلاً توفيقياً قد ينجح في تفادي حدوث الأسوأ في أمور الاقتصاد والمالية، ولكنه سيكون أيضاً محبطاً سياسياً، سواء لمؤيدي «خروج» بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو للمطالبين ب«بالبقاء» فيه. ولو بقيت بريطانيا «حتى لو كان ذلك جزئياً» في الاتحاد الأوروبي، بعد أن اختارت تركه لأسباب يتعلق معظمها بالهوية والسيادة، فذلك سيؤثر بشكل سلبي على الإيمان بالديمقراطية ونظامها. وما يخشاه البريطانيون أكثر هو أن أن يكونوا قد عبروا من خلال الديمقراطية على تفضيلاتهم، ثم ينتهي بهم الأمر إلى الجلوس على السياج، أو أن يضطروا إلى تحمل تكلفة باهظة للمغادرة، من دون أن يستعيدوا سيادتهم بالكامل بسبب الترتيبات الصغيرة بين الدول الصديقة، التي سيجري عملها بهدف حماية مصالح كثيرين على كلا الطرفين. إن النقاش حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بما يتسم به من تعقيد شديد، يكشف عن إحدى المعضلات الرئيسية، التي تواجه منظوماتنا الديمقراطية: ماذا تفعل عندما ينقسم بلد ما انقساماً عميقاً حول قضية مهمة، هذا إن لم تكن أصلاً هي القضية الأكثر أهمية على الإطلاق؟ معروف أن الأنظمة الاستبدادية لا تعاني من هذه المعضلة، أو بالأحرى لديها إجابة جاهزة عنها. ففي تلك الأنظمة يقوم الموجودون في القمة باتخاذ القرار من دون التشاور مع أولئك الموجودين في القاع، وما على الناس جميعاً سوى الانصياع والامتثال. وما حدث في بريطانيا، هو أن أغلبية ضئيلة من الناس صوتت لصالح خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى سقوط الأوضاع في حالة من التذبذب الشديد، وهو تذبذب مستمر، وسيستمر بغض النظر عن نجاح المفاوضات الجارية من عدمة. فحتى الآن، في آخر ديسمبر 2017، ووفقاً لدراسة نشرت من قبل منصة YouGuv للبيانات، تبين أن 42 في المئة ممن استطلعت آراؤهم، ما زالوا يعتقدون أنهم كانوا على حق في التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في حين يعتقد 11 في المئة فقط أن الحكومة يجب أن تسعى إلى خروج «أكثر نعومة»، ويؤيد 18 من البريطانيين إجراء استفتاء جديد، في الوقت الذي يريد 16 في المئة ببساطة التخلي عن موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتصرف، وكأن التصويت لم يحدث أبداً. وهذه الانقسامات موجودة داخل الطبقة السياسية أيضاً. فأي حل وبصرف النظر عن موهبة المفاوضين من أي من الجانبين، لن ينجح في التوفيق بين معسكري الموافقين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومعسكر المعارضين لذلك. فالأمر الآن لم يعد يتعلق بالعثور على حل جيد وإنما الوصول إلى أقل الحلول التوفيقية سوءاً، أي الحل الذي يجعل مَن صوتوا من أجل الخروج يعتقدون أن أصواتهم قد احتُرمت، ويجعل أيضاً من عارضوا الخروج يعتقدون أنه قد أمكن تلافي حدوث الأسوأ، في النهاية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»