انتفضنا بلغة دينية، مرتبكة زمناً، كان ضجيجها عالياً، ودقيقها قليلاً، وأوقفنا ساعة الزمن عند نقطة الصفر، ومنذ ذلك الحين ونحن نتحدث عن الأطلال، وعن الغزوات والقفزات، ونقول للآخر: أنت العدو اللدود من أول الحدود حتى آخر الحدود، ولم ندع شاردة ولا واردة من الأوصاف والنعوت، إلا وقذفنا بها العدو الدائم والحائم حول رؤوسنا، لم نمنح عقولنا فرصة تأمل جريان الأودية من حولنا، ولم نمنح الفكرة لكي تنضج وتتفتح عن أفكار جديدة، تتلاءم وتتواءم مع ما يجول في هذا العالم، كنا طوفاناً جارفاً غارفاً، من سيوح وسفوح، وطفوح، لانتوقف عن نز الدماء، وجز الحبال المشدودة على الرقاب باضطراب·· العالم تحرك بسرعة فائقة، ونحن غاصت أقدامنا في طين التشدد، وخوَّنا كل من شعر بالضيق من الاختناق، ففكر في التنفس، أخرجنا من المِلَّة كل من فتح النافذة ليرى كيف تحلق طيور المعرفة، وتنقر حبات الحلم حبة حبة·· سخِرْنا من الحالمين بالمزن الممطرة، تطاولنا على الحقيقة وقلنا لا حقيقة إلا نحن، ولما صحونا، فتحنا عيوننا على خير الناس، يغوصون في الفساد إلى الركب، ويغطون في التخلف حتى ذوائب الرأس، وينهمرون في الفقر حتى ذابت عظام أطفالهم، والعالم من حولنا يتحرك ويحرك العجلة للأمام بسرعة الضوء·· واكتشفنا بعد حين من الدهر والقهر، أن أمة مسخت الحقائق، واستعدت الدنيا ضدها تقف وحيدة في وجه العاصفة، تندب الحظ، وتنعى ماضياً، وتبكي على أمجاد من خيال، وضع فكرة لكنه لم يؤسس مشروعاً حياتياً·· إذاً ماذا نفعل، كي نستعيد أنفسنا، ونحفظ مقدرات شعوبنا؟ الحل لا يكمن في الصدام، لأنه لا مجال للمقارنة بيننا والآخر في مختلف الصعد·· ولكن ما نملكه من قوة، هو في ثقافتنا وقيمنا الصحيحة، التي لم تقفز على الواقع، ولم تشبها شائبة، التزحلق على المياه الآسنة·· نحن نملك ما نقوله إلى العالم، وهذا سلاح حيَّدناه قروناً، وتجاوزنا أهميته، وراوغنا، وصلنا وجُلنا في ساحات هي غير ساحاتنا، والتفتنا إلى لغة مرتبكة، مضطربة، خربت الأصيل والسليل فينا·· نحن نملك لغة التجادل بالحسنى، ومخاطبة الآخر بلغة قرآننا الذي دعا إلى التسامح، والتعاطي مع الآخر بندية لا يغادرها الاحترام، وبتوازن لا يخربشه انحناء، نحن أمة بمخزونها الثقافي، قادرة على الحوار لو تخلصت من المتسلقين، والمتسولين، والمتسللين، والمتزلفين، والمدعين الذين أوصوا أنفسهم بالخلود في الجنات، وسنوها صكوكاً لغيرهم، ومن يتبع نهجهم، ومن شذَّ عنهم فمصيره الهلاك· نقول الحوار أجمل، والشفافية أنبل، والحب هو الكمال، في علاقة الإنسان بالآخر، وما الحقد إلا نار في هشيم، وجحيم في أديم، الحب يفتح أفقاً للفهم، ويفسح طريقاً للوعي، وينسج خيوطاً للعلاقة مع الآخر، سليمة معافاة من درن الأهواء والأنواء والأرزاء·· إمبراطوريات وممالك، عندما استفردت بالحقد، وهجرت الحب، دمَّرت وتدمرت، وذهبت في سواد التاريخ·· فلنتعظ··