هنا نحن لا نناقش الدور أو المكانة القيادية للولايات المتحدة الأميركية، بل ما طرأ من تحولات في صناعة السياسات الأميركية والتأثير السلبي لجملة تلك السياسات منذ انهيار الاتحاد السوفييتي على شخصيتها المعنوية ومكانتها العالمية.

وتعد استراتيجية إعادة «صياغة الجغرافيا السياسية» وما انتجته من سياسات، مثل ديمومة لحالة متدحرجة من عدم الاستقرار الدولي، وتماثل ذلك ولجوء بكين وموسكو لاتخاذ سياسات عدائية هدفها احتواء تلك السياسات رغم تماثلها من حيث النتائج والأخرى الأميركية.

الأزمة الأوكرانية كان بالإمكان إدارتها بشكل أفضل لو تعاطت واشنطن معها من المنظور الأوروبي أو حفزت على تخليق رؤية أوروبية تكون هي رافعتها السياسية، وأداة الضغط غير المباشر عسكرياً عبر حلف «الناتو». كذلك، غذّت واشنطن وساوس عقدة الاضطهاد لدى الروس، مما قاد لالتفاف أكبر حول منظور «الدولة الوطنية» الذي قدمه الرئيس فلاديمير بوتين منذ تسنمه السلطة. وما موقف الصين وروسيا من ملف إيران النووي إلا حالة من حالات التماثل النفعي، حيث تحصلت إيران عبر المفاوضات على تحقيق انتصار معنوي داخلياً، وفرض اعترافاً دولي بمكانتها الجيوسياسية رغم تصنيفها (الدولة الأولى عالمياً في دعم الإرهاب) من قبل الولايات المتحدة وغالبية حلفائها الاستراتيجيين.

وها نحن الآن على أعتاب إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران وإعلان إدارة الرئيس بايدن أن «عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي لا يلزمها بتصديق جديد من الكونجرس»، حيث إنه قد تم التصديق عليه عام 2015. في حين أن إدارة بايدن هي من رفع سقف اشتراطات العودة لهذه الاتفاقية، واعتبرت عدم انصياع طهران والقبول باشتراطاتها ضرباً من الخيال السياسي.

إلا أن واشنطن هي من تَراجَعَ ولجأ إلى تقديم محفزات مالية (الإفراج عن حسابات مجمدة لدى أطراف دولية وحسابات بالدولار الأميركي)، وذلك تحفيزاً لطهران على الانخراط الكلي في المحادثات. لم تتطرق المسودة المسربة للسلوك الإيراني العبثي بأمن جوارها المباشر، أو استمرارها في تطوير وتزويد وكلائها بأسلحة متطورة (مسيرات/ صواريخ باليستية/ تمويل/ غطاء سياسي)، في حين أن إدارة بايدن هي من تبنى ذلك في مقاربة تعكس توافقاً مع حلفائها الإقليميين، إلا أن جملة الضغوط الداخلية والدولية التي ترزح تحتها واشنطن (تأخر إنجاز برامج التعافي الاقتصادي وحالة التضخم/ الفشل في احتواء الصين وروسيا/ أزمة الطاقة في أوروبا على خلفية الأزمة الأوكرانية/ تراجع حظوظ «الديمقراطيين» في الاحتفاظ بالأغلبية في الكونجرس بغرفتيه) هو ما يدفع إدارة بايدن بالعودة لاتفاق عام 2015.

التدثر بعباءة العودة للاتفاق النووي مع إيران لن يتسع لاحتواء كل ما سبق من إخفاقات أميركية داخلياً وخارجياً، إلا أن السمة الأبرز في الشخصية الأميركية الحديثة، هو إصرارها على تجاهل الأخطاء بدل مراجعة إنجازاتها السياسية بالمقارنة مع ما تحقق بفضل مكانتها إلى حين انهيار الاتحاد السوفييتي، وفضل حلفائها في ذلك الإنجاز التاريخي.

* كاتب بحريني