جاثٍ أحرّك جمرها هذه النار. بالعصي التي احترقت، ثم بأصابعي مغموسة في الرماد، ولم أجنِ بعدُ المفاتيح. ما الذي أشعل الرأس مبكراً وزج عينيّ في حرقة السؤال؟ كلما فتحت كتاباً في الطفولة، وجدته فارغاً إلا من الكلمات المقلوبة، ومن الجُمل التي ارتفعت مثل قضبان الحديد، وسوّرت رغبة العقل في الشرود وفي الخيال. ورقة بعد ورقة، ظل الفراغ يكبر في الزوايا والهوامش كأنه هو المعنى. أما المتون، فكانت تعجّ بسيوف تقاتل بعضها عبثاً ولا أحد يدري لماذا. وكانت الفكرة العالية تُقال على شكل حكاية، ولكن في النهاية يُقتل صاحبها. أما الشعراء، فكانوا مدّاحين ردّاحين لمجدٍ واهنٍ. وقفوا على باب البلاط يمدّون لسانهم لأجل كسرة دينار، وما نالوا سوى المحو، مجرورين في النهاية إلى الردى والرداءة. كابٍ في حفرة البداية لم أغادرها، وما نفعتني حبالي. لم أسقط فيها طوعاً، ولكن دفعتني الأيادي الغريبة حين حدقّتُ في سرّ الهاوية. ها أنا كلما مسحتُ الغبار عن الكلمات أُرمى بحجر، وكلما نطقتُ بمسكوتها راقصني المقصّ. لم يكممني أحد، لكن وخزاً يظلّ ينبضُ في الحنجرة كلما هممتُ بقول آه. من دسها في عروقي؟ من هذا الذي تأنّق ليصير نقيضي وأنا أراهُ، في الظلال التي أطردها عبثاً وتظل تجذبني من ثيابي. في الأحلام المطفأة، في جيبي الحافي، وفي الورقة التي أطاردها منذ أربعة أعمار ولا تزال بيد العاصفة. هل حقاً يعاندني نقيضي؟ أم أنني في الأصل ولدتُ بلسانين أحدهما يقول صمته ولا يسمعه سواي، والثاني يطولُ كلما قطعته صهٍ صهٍ. معلقةً بخيط مطر، هكذا أردتها روحي. كلما أغلق الوقت دوائره، وكلما سدّ المكان أذنيه، تسربتُ إلى المعنى ولبست ثوب خفّته سطراً بعد سطر. الماءُ في النهر رسالتي للبحر، النارُ في الشمعة زهرتي لليل، أعلق الذكريات قرطين في أذن المسافة، وأهرّب أحذيتي في القطارات ولا أسافر. قابعٌ عند انتصاف الضوء من الظلام. يمناي تلويحة للآتين من فخرٍ والذاهبين إلى فخر. الريحُ، في سكونها أو جنونها، مجرد طفلة تطاردُ بالون أمنياتٍ خضراء. هكذا، عندما جلس الحظ قربي كساني ريشُه، ومثل طائرٍ يجرب التحليق للمرة الأولى، قفزتُ إلى شاهق المدى، غير مكترثٍ بالوصول، غير هيّابٍ لو سقطتُ ألف مرة. ربما، ولعلي بعدها، أُولدُ في جناح أغنيةٍ آتية.