جاهر بصمتك غير مكترثٍ بترك الأثر. خذ ركناً في السكون ولذ بعماء ذاتك واكتشفها. وسوف ترى أن جلوسك وحيداً هو دحرٌ للفراغ، ومحوٌ لسيرته، وفكاكٌ من قيد غموضه وحواشيه. كل كلمة قيلت أو تقالُ في غير مجراها تؤول إلى زبد. كل فكرة تنبتُ خارج القلب، تُدميه. ما تراه بحواسك هو أوّل الوهم، وما تدركه بعين عقلك هو الحقيقة الناقصة. وما يتناهى إلى بصرك بأنه الوجود، ما هو إلا انعكاس ما تُضمره في النيّة، وما تُخفيه في السرّ. أما الأشياء خارج ذاتك، فهي محض أشياء هيهات تُدرك. لا الشجرة التي سميتها (أمّي) ولدتك، ولا البحر الذي تناجيه سينجيك، ولا الفكرة التي تطاردها فراشة ضوء. ليس سوى الوهم يكبرُ في بطن معناك كلما شربت من الزوال. المعاني التي ربيتها صغيراً وظننتها زادك حتى آخر العمر، هي نفسها ثقلُ حِملك. فانظر في أيّ صرّة ستجمعها، ومن أي منحدرٍ سترميها. متغنياً بأنك في الطريق إلى خلاصك. وما من خلاص إلا بالتجرّد من زيف كل ما قيل. مرةً، حين تركنُ هادئاً وجهاً لوجه أمام هذا العالم. عليك أن ترى صورتك في كل ما فيه، وأن تراهُ انعكاسك ليس إلا. كل الوجود وعيك، لا شيء خارج ما تعيه. النار التي تأكل الغابات وكأنها لقمة سائغة، هي نفسها الشمعة التي تنير لك الدرب. فإن أحببت هذه وكرهت تلك، وقعت في الرؤية الضيقة. وإن اخترت البقاء محايداً، نالك الزيفُ أيضاً. ذلك لأن البقاء في المنطقة الوسط يعني أنك محاصر بين هذا وذاك. أو أنك مقسومٌ بينهما، وأن الضدين كليهما ينهشان من زنديك. أما إذا انتميت إلى كل شيء في اتساع رؤاك، ورأيت في بعضك اكتمالك، ورأيت أن زمنك لم يبدأ ولن ينتهي، فلن تعود أسير معنى، لأن المعاني أيضاً عابرة، ولا محالة تزول. في اتساع رؤاك تختفي الفروق أولاً. سترى أن الضد يحمل في قلبه الضد، لكن عقلك ما يفصل بينهما. وسترى أن النهاية والبداية حدّان للفكرة المغلقة، وأنهما صنيع عجزك عن تصور ما لا يُحدّ. ولن تكون حراً يوماً إلا بانعتاقك من تأطير ما تراه وما تسمعه وما تحسّه. عندما في لحظة كاشفة، يتجلى لك الكون كلاً واحداً، لا تنقصُ منه ذرة، ولا تزيد.