الزائر والمحب للمدن، وخاصة منها المدن العتيقة والتاريخية، لا بد له من ظل يهجع عنده، وليس أبرد من ظل المقاهي، لا بد من مكان يستدفئ فيه مع نفسه، وليس من مساحة أجمل من طاولة وكرسي ونافذة مقهى تطل على الشارع، وقد كانت لي في المدن التي أحببتها مقاه بعينها، هي الظل، وهي الدفء، وهي مستراح النفس التعِبة، وملاذ للطائر المسافر، ولأن دمشق هي العشق العربي، ومدينة يصعب أن تتخلص من حبها، فقد مررت بمقاهيها «الحجاز، الهافانا، النوفرة»، لكن لمقهى الروضة تلك المكانة الساكنة شمالاً جهة القلب، فقد كبر مع دمشق، وكان شاهداً على الأحداث الكثيرة التي مرت عليها، والزائر المتردد مثلي لا يمكنه أن يخطئ الدرب الموصل إليه، مثل كل الذين ينصون بابه، ويحتلون مقاعده الخيزرانية والخشبية العتيقة، ويكتبون أحلامهم المتبقية مع ركوة قهوة، وكأس ماء من الحنفية، وينفثون دخان سجائرهم الشعبية أو الأرجيلة بالنَفَس العجمي، بحثاً عن منفى بارد أو وظيفة يطلقها الحظ في المدن النفطية، يمكنها أن تساعد شاباً على الزواج، وشراء شقة وسيارة، ثم التفكير في هجرة غير مضمونة إلى كندا مثلاً.
مقهى الروضة يحتل زواياه كبار الموظفين المتقاعدين، والتعبين من العمل الرسمي في وزارات ما زالت كما هي، بالغبرة نفسها، وبالملفات المربطة بخيوط صعب أن يفتلها الوقت، والذين يفترشون المكان بعد أن أصبح جزءاً جميلاً في يومهم، يتحلقون على طاولة صديق، ويبدأ الرهان النهاري أو المسائي على لعبة الطاولة «النرد أو الزهر»، والتي عادة ما يكون الفائز والمغلوب فيها غير راضيين بدرجة كبيرة عن سير الدور.
يظل النادل القديم يحاور الطاولات، وتلك الصينية النحاسية الرطبة التي عادة ما تحمل أكثر من كأس: «شاي، ينسون، زهورات، قرفة»، ويكاد يحفظ الوجوه كلها، وحساباتها المضبوطة، بعضها ما زالت تعطيه من فكة النقود المعدنية، كما اعتادت أن تفعل في نهاية الستينيات، وهو ما زال يناديهم بألقابهم التركية المندثرة شاكراً، وهو يملأ جيب السروال الأسود، ولا يسأل، لأن «الحال من بعضه»، وهو شعار يرفعه زبناء هذا المقهى، والذي تطبع بطبعهم، وغدا يشبه بأركانه وجوه البعض منهم، حينما يغلبهم الهرم، ولم يعودوا يبالون بسرعة الحياة.
مقهى الروضة الذي حوّله «عبد الرحمن المرادي» من دار سينما صيفية إلى مقهى شعبي منذ قرابة اثنين وثمانين عاماً، شهد أحداثاً سياسية، وانقلابات وهزائم وتصفيات وانكسارات، شهد الحراك الثقافي والفكري لدمشق ومدن سوريا، انزوى فيه كتّاب سوريا الكبار وشعراؤها وفنانوها وسجانوها ومسجونوها، وطاف به المثقفون العرب، والمنفيون سياسياً وثقافياً، واللاجئون من التقلبات الحزبية، والمنظمات الشعبية، جلس فيه الرئيس صدام حسين حينما كان مطارداً في سوريا، وجلال الدين طالباني، وغيرهم كثر، فيه كانت تتداور أسماء تشكيل الوزارات في سوريا في عهودها الماضية، لأنه كان مقر التقاء السياسيين والصحفيين، وقريباً من البرلمان، ويمسك بخاصرة دمشق، وشوارعها التي كانت حيّة ومتمدنة، قبل أن تطأها الأحذية العسكرية الخشنة، ويغلبها ويقلبها أهل الأرياف.
اليوم.. أبكيه كشيء غائب، أما زال ذلك المقهى العتيق في مكانه؟ وهل ما زال «أبو الحكم» النادل المخلص يسرح في أرجائه؟ أما زال الناس كعادتهم يأتون، ويثرثرون، ويدخنون، ويشربون، ويقرأون صحفهم المخبوزة منذ يومين، ولا يشتكون إلا من الحياة! وغداً نكمل..