سألت ذات مرة المترجم دينس جونسون، لماذا يعيش بالقاهرة وأحياناً بالفيوم، بعيداً عن موطنه الكندي أو ريفه البريطاني؟ فأجاب، كما استقيت منه، أنه ربما كان عشقه للغة العربية وثقافتها قد أتاح له الرحيل منذ بدء حياته التي عاش قليلاً منها في موطنه، فأراد «العربية» لغة حوار، أن تعيش في ذاكرته، حيث قربت بينه وبين المدن التي ينتمي إليها كمترجم ومهتم بنسيجها الثقافي، ولربما كان خير من ترجم لها وجنح بها بعيداً في فضاء الثقافة العالمية.
وفي استقصاء آخر لذاكرة المثقف، نرى أن كثيراً من الكُتاب والأدباء، ممن هجروا مسقط رأسهم ومدنهم التي ينتمون إليها، وبرزوا في عالم آخر لا ينتمون إليه سوى ثقافياً، إنما تركوا أوطانهم من أجل أحلامهم الثقافية ومكوناتها، ووراء أثر السحر، وشغف البحث عن الذات، ولديهم ذاكرة ممتدة من مدن طفولتهم إلى مدن أخرى تكمن فيها أحلامهم وذاكراتهم، فليس بالجسد وحده يعيش الكاتب، بل أحياناً قد يعيش في ترحاله حين ينظر إلى الحياة على أنها الذاكرة، والحدس المسكون بالوجود!
ذاكرة المثقف هي نبوءاته التي تستدرج ترحاله في حال الكتابة المؤجلة على مر الوقت، تهبه الشوق إلى أمكنة ربما تكون خاوية إلا أنها وجودية للكتابة، بعيدة عن التوترات، بعيدة عن ازدواجية الحياة في المدن، التي يعرف تفاصيلها، يعيشها في ذاكرته النافذة على كل التفاصيل الصغيرة، ويشقى بعمله أحياناً، وكأنه لا يعيش الحلم المتخيل من الكتابة، المرتهن إلى الثقافة.
إن الذاكرة تتقد بالحنين والبعد، وتتوهج بالإبداعات الفكرية، كلما عصفت بها الحياة وشغلتها المحن بعيداً عن محيطها وبيئتها، التي هي الآلام ولذتها في آن واحد، هي جغرافية الخيال تتسع باتساع الأمكنة وتقرأ من خلال فانتازيا الجمال الذهني.
ذاكرة تحلق في آفاق الحياة لترسم فسيفساء وجودية تبصر بعيداً، تسجل يوميات قرية مثلاً، أو تعبق في حياة أناس هم تحت مجهر الكتابة من عدة زوايا، وتنشأ روابط من الود مع نسيج أيام لا تعرف حصار الوقت.
ذاكرة المثقف تستنهض من ثباتها في الرحيل وهج افتتان الأفكار وألقها، وصولاً إلى احتدام فكري قد يربك كل التفاصيل من أجل احتكاك الماضي والحاضر، وشغف يتضاعف نحو أذهان صافية مترامية الأنساق والمهارات الفكرية.