-    للأمكنة حضورها الطاغي فيك، أنت الذي تتوزعك مدن لها من تطواف الدرويش وتسبيحاته، ومدن طارحتك دفء ملتقاها، ونسيم لقياها، وتبقى مدينة وحيدة كأن حدودها أضلع قفصك الصدري، لها ماء العين إن بكت، وصهيل الشعر إن فرحت، هي التي تَرزّك حين تتداعى الرحى الثقال. وللعمر أيها الهارب بالمدن والعمر  سرديات من أيامه التي كانت تتباطأ حين كنت تريدها كبرق خاطف، وسريعة للغاية حين تمنيتها أن تسير على عكازة وقتها، وعلى أقل من مهلها.  وبين المكان إذا تحدث، والعمر إن نطق تظل تميد بك الأرض، أيها الدرويش الفاني المتفاني، وتهتز وجداً صوفياً، كأن الأدعية تحت أثوابك، وخفة الروح ورضاها، ومسك صلواتها تُحلق بك نحو فضاءات جميلة وملونة في الحياة.
-    بعد التطواف، وسير العمر.. إياك أن تخسر صديقاً قديماً، لأنه يصعب بما تبقى من العمر، وبما ضاقت من أمكنة، أن تربي صديقاً جديداً، كما هو صعب أن تجبره على الدخول لأوقات طفولتك ليشاركك في شيء لم يعشه معك، فرحة الدنيا، وتثاؤب زمنها!
-    بعد التطواف وسير العمر.. إياك وأن تغير جلدك، فلا العمر يسمح لك، ولا المساومات يمكنها أن تجدي نفعاً معك، والخير أن تظل مقتنعاً بما كنت تعتقد، فما لم تقدر عليه السنون الأولى، لا يسهل على السنين اللاحقة!
-    بعد التطواف وسير العمر.. لا تخلق عداوات، فليست كل حروبك ظافرة، ولا كل انتصاراتك يمكن أن تتوج بها الرأس المثقل بأعباء السنين، وتعب العمر، وتلاشي المسافات والأمكنة!
-    بعد التطواف وسير العمر.. لا تقرب من عش امرأة، فلا هي قادرة أن تستوعب عطش الذئب، ولا عَرَق ضجره، ولا الذئب يمكنه أن يتخلى عن هرولته التي بلا عبث!
-    بعد التطواف وسير العمر.. ستبقى النخلة القديمة التي دفن تحتها شعرك، وزغب رأسك في أسبوعك الأول، هي الظل، وهي الملجأ، وحدها من تجلب لك الغفوة الصافية، وأمنية الرقدة الأبدية، وإن تساقط عليك من رطبها الجني!
-    بعد التطواف وسير العمر.. سترى الأشياء، وقد كبرت بسرعة، وتتبادى لك الأمور، وقد نضجت على عجل، وأن سنوات العمر جرت في غفلة منك، وعنك، وأن الأمكنة ما بقي منها غير حنين مطرها آخر الليل، وبُحة «ساكسافون» يئن من وِحدة ندماء البحر والريح، وحده الصدر يظل يريد متسعاً، والعين تريد أفقاً، لكن الوقت يبقى حارساً غير وفيّ، والأمكنة تُضَيّق عليك بما رحبت!
- بعد التطواف وسير العمر .. ستهجم عليك الأيام، لكنها ستتركك وحدك تركض في براري الوقت، وتعود منهكاً لكهفك، وبئر أسرارك، الأولاد كبروا مع نسائهم، وأقفال أبوابهم، والأحفاد الرقميون متوحدون مع شاشاتهم، يضحكون مع البعيد، ولا يرون القريب! ولا أحد منهم يمكنه أن يَفزّ ليناولك عكازتك التي جلبتها من أحد أسفارك إلى أفريقيا، لتكون المسند والظهر في خريف العمر، وشتاء الأمكنة، وتلك الضحكة التي تفرح لو وجدتها في طريق عودتك.
-    بعد التطواف وسير العمر.. تتمنى لو أن أحداً يقرع باب بيتك، ليقول لك: لديّ ما يسر خاطرك.. أو فقط مررت لأتأكد أنك ما زلت شاباً كما عرفتك!
-    بعد التطواف وسير العمر.. سيتساقط من أمامك ومن خلفك، وعن يمينك، ومن شمالك أشخاص كثيرون، وتتمنى أن تعيش لتتذكر أو لو يمكنك أن تذكّرهم، آه.. كم كانت الحياة بعمرها وأمكنتها ضيقة في عيونهم، لذا أعمتهم أو اعتموا بها!
-    بعد التطواف وسير العمر.. ستتذكر أولئك المتورمين بالأنا، المنتشين بريش طواويس الوهم، أولئك الذين ماتوا مبكراً في العشرين، ولم ينجزوا إلا العبث، ودفنوا وهم في السبعين، وحكاية دموعهم مثقلة، لا تحدها نهاية، ولا تعرف لها بداية! لم يدركوا عمرهم، ولم يعرفوا أمكنتهم، فضاعوا مثل غبار جلبته ريح عابرة.
-    بعد التطواف وسير العمر.. وحدها النفس يمكنها أن تشكرك، ووحدها مدينتك الغالية العين يمكنها أن تفرحك، لأنك أرشدت النفس لفعل الخير، ولطريق معشوشب أخضر مثل البشارة والإحسان والبِر والصدق.. وأكثر! ووحدها مدينتك التي يمكنها أن ترتضي بك؛ بأثقالك وحملك، وما خطّت يداك من رقيم، ومن مطويات حكيم، كان يحب التطواف، ويخاف من سير العمر!