منذ القرن السابع والعالم يغط في موجات عارمة، من أجل الخروج من سطوة الرومانسية العقلانية، والوصول بالعقل إلى ضفاف الحرية المبتغاة، ولكن هذه الحرية المبنية على العقل المستنير هي نفسها وقعت في بئر الانحطاط الفكري، ورسمت للإنسانية الناهضة صورة تشاؤمية عن التنوير، وعلاقته بالحرية.
يقول أيمانويل كانط: «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه بحق نفسه». فالإنسانية التي استبشرت خيراً بحدوث الثورة الفرنسية في السنة 1789م وجدت نفسها في خضم سطوة التوسع الاستعماري، وكذلك انفجار حربين عالميتين راح ضحيتها الملايين من البشر، لمجرد طغيان العقل المادي المتغطرس، والساعي إلى بسط السيطرة على الطبيعة، ومواردها، وبشرها.
وهذا يقودنا إلى نفس السؤال الذي طرحه ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي «ما التنوير؟» على الرغم من أن هذا الفيلسوف غاص في مصطلحات أبعدته كثيراً عن الوقوع على تلك الثمرة التي بحث عنها، وهي ثمرة التنوير.
ولذا لا نجد اليوم إجابة عن السؤال التاريخي حول ما هو التنوير، لأن معظم الفلاسفة الذين جروا خلف المعنى الحقيقي للتنوير، كانوا يصطدمون بالأعراض، ومن ثم يتوقفون دون الولوج في مكمن الأسباب.
وربما نجد الإجابة حول سؤال ما التنوير في رؤية سيجموند فرويد التحليلية، والتي دارت حول قانونية العقل الباطن في تحديد السلوك البشري برمته، وعلى الرغم من أن هذا العالم النفسي العبقري لم يتطرق إلى مدلول التنوير بحد ذاته، إلا أنه أمسك بزمام المعرفة الحقة بخصوص، دور اللاشعور في التعبير عن المكنون الداخلي، وكل ما يصدر عن الإنسان من سلوك، وهذا يعيننا على وضع اليد على الجرح، حيث إن كل ما صدر عن القرن الثامن عشر من صراخ، ومطالبات بقيام العقل الحر بدوره، ليست إلا دعوات، تندرج تحت التمنيات، وإنما العقل الباطن لم يكتشف أحداً دوره في هذا الخصوص وكل ما يتعلق بالحريات الفكرية وما يرتبط بتحرير العقل من شوائب العقل.
ففشلت النظريات الفلسفية، لأنها لم تزل تهيم في بيت المشاعر، الخارجة عن بيت العقل الباطن، وبرزت في عصر مأساوي بالتنوير أعتى الامبراطوريات الفتاكة، بدءاً من النازية، ومروراً بالفاشية، وانتهاءً بالستالينية.
الأمر الذي يجعلنا نرى أن الخروج العاقل من ظلمة العقل الباطن، والوصول إلى المياه الدافئة على ضفاف العقل الواعي، السبيل الوحيد لتنوير البشرية، وتخلصها من تلك العتمة الضارية.