لعل من الكتب المتفردة والقيّمة التي صدرت حديثاً، وتستحق القراءة وإعادة القراءة، والتي تواجدت في معرض أبوظبي للكتاب هذا العام، وسعدنا بأمسية جميلة عنه في جناح «مؤسسة بحر الثقافة»، كتاب «الأسماء الجغرافية.. ذاكرة أجيال»، وهو دراسة تاريخية وتوثيقية تخص أسماء الأماكن والمواقع في دولة الإمارات للباحث «د. خليفة الرميثي»، هذا الكتاب الذي يُعد جهداً شخصياً، وبحثاً وعناءً كلّت دونه الأقدام، امتد لأربعين عاماً، التقى خلالها الباحث بمئات من الأهالي وكبار السن، وتقصى الأمكنة، ودوّن إحداثياتها، وصنع لها الخرائط، نقل ما كتبه الرحالة والمقيمون الإنجليز، واستقصى ما كتبوه في يومياتهم عن الناس والمكان وما يملكونه من نخيل وأنعام، لا يتوقف الجهد هنا، فكثيراً ما يجد بعض الأسماء محرفة أو مكتوبة بطريقة خاطئة بالإنجليزية، فيرجعها إلى أصلها ويصحح اللفظة الأجنبية، ولأن هذا المجال هو أشبه بالمكان البكر، حيث الدراسات قليلة، والبحوث نادرة، والخرائط تعد على أصابع اليد، لا إحصاء سكاني ولا توثيق، والأهم عدم وجود الصور الفوتوغرافية، لذا كان الاعتماد على ذاكرة أجيال سابقة ولاحقة، تلك الذاكرة الشفاهية الجمعية، ومقارنتها ضرورية، فلا بد من الجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ من حديث الناس الشفاهي إن أردنا المصداقية وابتغينا الموضوعية، اليوم بعد الأربعين جل أولئك المتحدثين والمتكلمين وهم يزيدون على المائة غيبتهم الحياة، لذا هو فضل يحسب للباحث «د. خليفة الرميثي» لأنه التقى بهؤلاء من كبار السن والأهل قبل أن نخسر ذاكرتهم ونخسرهم في دروب الحياة.
الكتاب الذي يزيد على 600 صفحة من القطع الكبير، فيه كم من المعلومات، والمعارف، واستقصاء عن تسمية الأماكن والمواقع الجغرافية، وتعريفها اللغوي، وتفنيد استعمالها، حتى إنه أحياناً، ونظراً لقلة المصادر يلجأ الباحث إلى حيلة إعادة قراءة المعلومة المتوفرة بين يديه، ويستنبط منها بطريقة «خوارزمية» عدة نتائج تخدم البحث، فمثلاً من خلال ورود معلومة عبر المراسلات عن دفع ضريبة لحاكم أبوظبي من سفن الغوص أو محصول النخيل، ومن عدد «قوس التمر» كل عام في منطقة الظفرة مثلاً، يمكنه أن يستنتج بمعادلات رياضية، كم المحصول من النخيل هذا العام، وعدد أشجار النخيل المنتجة في المنطقة، ويمكن أن يتطور لحساب عدد «الجو أو اليو» وبالتالي عدد «الغيوط»، وعدد المحاضر، وبالتالي عدد القاطنين في الظفرة، وعدد البيوت، وهذا جهد كبير لا يستهان به في ظل مكان قفر بالدراسات والبحوث السابقة.
الكتاب يحتوي على مسميات إمارة أبوظبي، مكان البحث والتقصي في المقام الأول، حيث مكان ومعاش الباحث، وتقصيه طيلة السنوات الأربعين، فيه ستجد تفاصيل مسميات الصحراء، ومسميات الجزر والبحر، وما يرتبط بهذين المكونين الجغرافيين من مترادفات لغوية ومصطلحات حديث الناس، وتشبيهاتهم الخارجة من البيئة، فـ«القصار» تختص به البيئة البحرية، لكن في الصحراء تجد مقابله «البرقا»، ويمكن أن يخصص باسم، وإذا وُجد منه أكثر من واحد في حيز قليل، أضافوا إليه النسبة إما لموقعه شرقاً أو غرباً أو لمجاورته شيئاً أهم منه، وهذا هو الحال في الآبار ومواطن المياه، والتفريق بينها، فـ«الطوي» يختلف عن «البدع» عن «الجفر أو اليفر» عن «الخريجة»، فكيف بالذي يتتبعها بالأسماء لارتباطها بمن ابتدعها أول مرة أو من حفرها أو من طواها بالحجر أو الطين في كل مواقعها في الصحراء، حيث للماء العذب كلمته في الحياة أو الموت، وحتى في الجزر ومياه البحر، للماء العذب منطق العيش والاستقرار.
كتاب يعد رائداً في بحثه وتقصيه وتطرقه لأماكن شبه مجهولة بالنسبة للدراسين والباحثين جدير بأن يحتفى به، هو اليوم أفضل من أي مرجع أجنبي عن المنطقة وناسها وأماكنها الجغرافية ومسمياتها.