لو أمكن أن نتوغل عميقاً في فكر، لا في وجدان بيب جوارديولا، لنعرف كيف يبني للثلاثية التاريخية للمان سيتي قواعدها، وهو يصل للجدار الأخير بمواجهته للإنتر الإيطالي، لاكتشفنا كثيراً مما يصيب بالجنون، ولوقفنا على كثير مما يجعل من بيب مدرباً استثنائياً، بل وفريداً من نوعه، متفرداً في رسم الطريق نحو الفوز، وما يؤكد بالفعل عبقريته التي لا نرى منها الكثير بين قبيل المدربين، حتى الثوريين منهم.
ليس من عادة بيب أن يترك شيئاً للصدفة، فكل ما يشتغل عليه، أن يضيق هامش الخطأ، أن يرفع درجات الجودة في تنزيل الرسم التكتيكي، وأن يزيد في تعقيد أسلوبه ونهجه واختياراته على المدربين المنافسين، وعلى الخصوص أن يظفر بالنهايات السعيدة أوروبيا. ما أتت الإدارة الإماراتية الحكيمة والمتبصرة لنادي مانشستر سيتي بجوارديولا، إلا لأنها وثقت من أنه سيعطي للبلومون، هوية يتصدر بها المشهد الكروي الإنجليزي، وفلسفة تضيء عتمات السفر، وصحنا دواراً يحلق به لدنيا الألقاب، وكان الهدف الأكبر هو أن يتسلم المان سيتي عرش كرة القدم الأوروبية ويضع على رأسه تاج الأبطال. ما أفلح السيتي سنة 2021 في الوقوف على قمة الأبطال، وهو يصطدم بالبلوز في نهائي إنجليزي خالص، وما نجح في تكرار الوصول للمباراة النهائية مرتين، وبخاصة السنة الماضية التي لدغ خلالها بقوة من جحر ريال مدريد وغادر حزينا تلك النسخة من دوري الأبطال من الدور نصف النهائي.
حزن كل عشاق السيتي يومها، لعنوا الحظ ووقفوا متباكين على أطلال صرح حلم هوى، إلا بيب جوارديولا، الذي قال بحكمة الفلاسفة بعد السقوط أمام الريال: «نعم خسرنا، ونحن في قمة الحزن، لكننا تعلمنا وفي الموسم القادم سنعود أقوى».
وما أجده في البلومون الذي التقط القمر التاسع في البرميرليج وضم الهلال السابع لكأس إنجلترا، ويسعى هذا السبت لكي يحضن لأول مرة شمس الأبطال، إلا ما عبرت عنه جملة الفيلسوف جوارديولا، فالسيتي عاد لدوري الأبطال أقوى وأشرس وأعقل في تدبير محطات السفر، كما أن جوارديولا تمرد على نفسه، عندما سمح بتطويع منظومة اللعب حينا وبتليينها حينا آخر، فكان الفريق في أدائه الجماعي صورة من الثورة التي أحدثها في بنية فكره التكتيكي، وكان من مجسمات تلك الثورة، الوجه الجديد لجاندوجان المحور الحر والملتزم، والألفة الرائعة التي حدثت بين دياز، أكانجي وولكر في عمق الدفاع، وبين رودري وستونز في ورش الإسترجاع والإمداد، وبين دي بروينيه وهالاند في العمق الهجومي.
وطبعاً بعد كل الذي فعله بيب بأم اجتهاده التكتيكي، ليجعل السيتي قادراً على الإطاحة بالغول البافاري وبالجبار المدريدي، سيكون بحاجة إلى نسبة حظ لكي يطيح بإنتر ميلان ويعطي السيتي لقبه الأول أوروبيا والثلاثية التاريخية التي ستضعه في غرفة الخلود.