أيها الفيلسوف الذي ترك مخطوطاته من غير اسم. لقد جرى ما جرى، لأن الرجال الذين عرفتهم في طفولة الصبر، ماتوا صامتين، ولم يُنبئوكَ بدنوّ النهاية واقتراب الكارثة. حتى النساء الجسورات، وأنت سليلُ انسكاب حليبهن، لم يمسحنَ على رأسك حين خرجتَ لتواجه عاصفة الشك وحدك. نعم، رأيناك تكبرُ منكبّاً على الدفاتر تُنقّب فيها بعينيك ويديك، ولا تعودُ منها إلا دائخاً ومرتطماً بالمرايا والجدران وأسوار الشوك. وسمعنا أيضاً أن المتزمتين توقفوا عن عتابك وصاروا يرتادون الملاهي ودُور التسلية. ثم قلّدهم النمّامون والمزيفةُ قلوبهم، وصرت أنتَ، من غير أن تقصد، متأخراً في نظرهم، عن الكلام والمنطق والمحاججة.
هذه إرادة الزمن إذن. أنت تركض عشرين، ثلاثين، سبعين سنة، ثم تكتشفُ أن الأرض هي قيدك وانحدارك. ولن يفيدك لو ثبّتوا أجنحةً من الخوص على كتفيك وأمروك: طِر. إذ جُل ما ستجنيه هو ارتفاعك شبراً أو شبرين، وربما سَخرت منك بومةُ المراقبة، وربما وقفَ الغرابُ على رأسك قليلاً ليستريح، ثم أكمل امتعاضه من ضيق المدى ومن ذهاب النعيق بلا عودةٍ أو صدى.
ونحنُ المنقّبين اليوم في دفاتر طفولتنا، عندما نرى ونقرأ ما تركته لنا من أثرٍ، نتذكر أننا كنّا نسميك: الطفل الذي يلتهمُ الدروس ويخرج بعدها جائعاً. وفي صبانا، رأينا الفتيات يرسمنكَ ولداً يركضُ داخل دائرة محاولاً اصطياد عصافير الأفكار ليملأ بها جيبه. ولا يعرف أحدٌ لماذا طردتك المحطات من الجلوس على عتباتها، ولماذا انتهى بك الحال لتعملَ حارساً على مخطوطٍ لا يريد أن يقرأه أحد. المخطوط الذي عشت تُعمّر أبعاده فكرة بعد فكرة، وصار في النهاية متناً لا يقبل التأويل ولا الفهم، ولا حتى أن يُذاع نبأ اكتشافه كأثرٍ منسي.
نعم، أنت واحدٌ من فلاسفة مجهولين كُثر، وواحد من أرواح اختارت أن تنقشَ على جبين الزمن معنى وجودها كفكرة، لا كجسدٍ عابرٍ أو ذاتٍ لا تملكُ ذاتها. وهذه المخطوطات المجهولة على أرفف النسيان هي حنجرة من؟ وسؤال من؟ وصوت من؟
أيها الفيلسوف المجهول، أيها الشاعر المجهول، أيها الصوت الذي ترفّعَ عن أن يكون مرئياً. سأطبعُ جبيني على كل ورقةٍ تركتموها، وعلى كل صفحةٍ اختار صاحبها أن يتركها معلقةً مثل جرسٍ في الريح. أنا مثلكم حين أصمتُ متفرجاً على جنون هذا العالم وليس بيدي غير ادّعاء انتساب صوتي الخفيّ، مثلكم، إلى المجهول.