قبل المغرب، وقبل أن يصدح صوت المؤذن ذلك الرجل الجليل، وقبل أن ترتفع نغمة النداء الإلهي إلى أسماع الناس كان الصغار يلتفون عند زاوية زقاق القرية، ويتدافعون بمرح يتلمظون الشفاه الناشفة، ويبتلعون الهواء الرطب بشغف الجائعين، ولكن لم يكن لرمضان إلا رونق الانتظار، كما هو انتظار العاشق لقرة العين ولب الفؤاد.
وما إن تخرج أول كلمة من فم المؤذن (الله) حتى تنطلق السيقان السمراء عارية إلا من الإرادة باتجاه بسط الطعام المنثورة كالدر النفيس بين الأزقة، حيث يتجمع رجال القرية حول الموائد المعقودة على تراب الأرض ودخان الهريس يعبق المكان، وكذلك رائحة الثريد. هنا في هذا الموقف الاحتفالي تسمع لهاث الصغار الذين أنهكهم الجري لمجرد سماع الأذان، وتسمع طقطقة الحناجر، وهي تسرب الماء البارد إلى المعد الخاوية، بينما الكبار يزجرون ويحذرون من الإكثار من شرب الماء، وضرره على البطون الخالية.
في هذا الوقت يصمت الزمن، وتتوقف ساعته عن الدوران حول التعاقب بين الليل والنهار، كما أن المنهمكين على غرف الأنواع المختلفة من الطعام يغوصون في صمت مريع، ولا تتحرك سوى الشفاه، ومن تحتها الأسنان الجازمة لكل ما هو عصيب.
بعد الإفطار، وبعد الصلاة ترتفع الأصوات وتسمع تغاريد الطيور بين الأزقة كأنها الأطباق المعدنية، وهي تلتطم بصفحات البسط الناعمة تسمع الصراخ والضحك مختلطاً ببعضه بعضاً كأنه صفعات الريح على أوراق الشجر. وتستمر الحفلات حتى أوقات متأخرة من الليل في توقيت الزمن الماضي، حيث تعتبر الساعة العاشرة وقتاً متأخراً من الليل. ولما يأتي وقت السحور قبل وقت الفجر بساعة أو أقل قليلاً يستيقظ الصغار من النوم وعيونهم مغمضة، وأفواههم مفتوحة على الفراغ، وأجسادهم بائدة، ولا شهية تفتح نوافذها للطعام، ولكن تحت ضغوط الوالدين وتهديداتهما يذعن الصغار منفذين الأوامر بتلقائية زمانهم الرائع، وخضوع قيمهم الجميلة. بعضهم ينام قبل غسل اليدين، وبعضهم يسجي الجسد الناحل على المهد متذمراً نومة أهل الكهف فيغط في السبات كالميت. لم يكن في ذلك الزمن ما يشغل الأذهان، ولا يربك المشاعر، ولا يطير المنام ولا يجعل العين ترمش كأنها مصباح على وشك العطب، ثم الانطفاء. كان العقل صفحة بيضاء ناصعة من غير سوء، وكانت المشاعر صافية كأنها عيون الغزلان، وكانت الرغبات قليلة جداً تكفي فقط لإشباع طموح طفل لا ينظر إلى الحياة إلا أنها لحظة وتمر ليعبر هو مضيق الزمن بسلاسة ويسر وراحة نفس. وفي الصباح مع شروق الشمس تشرق عيون الصغار ببريق الفرح، وتشع وجناتهم بابتسامات أشبه بالجداول المترعة بالعذوبة.
في ذلك الزمن لا تعبس وجوه الصغار، ولا تكفهر جباههم ولا تتغضن أجفانهم، لأنهم يعيشون اللحظة وينتظرون المناسبات بأحر من الجمر، وكان رمضان عيدهم الأجمل لأنه يحمل في طياته ليالي اللعب على ضوء القمر والجلوس في مجالس الكبار، وسماع القصص والحكايات المسلية، فلا توجد غرف مغلقة، ولا سماعات تصم الأذن عن سماع ما يفيد.
في رمضان تحلو الزيارات للجيران لتناول ما تصنعه الأمهات بالأيدي المخملية الدافئة والجارة تسعد الجارة، والناس سواسية في توزيع الحب في الشهر الفضيل.