نشأت في وسط أُسري يعير لكل الأشياء المحيطة التقدير والاحترام ويتعامل بجدية بالغة مع الأمور، فلا مجال للاستخفاف والضحك ولو بدافع التخفيف والتهوين! لم أفطن لهذه الحقيقة إلا عندما اقتربت من عائلة إحدى صديقاتي، وبدأت في المقارنة كيف أن كثيراً من الأحداث التي كان يمكن أن نعدها عظيمة في منزلنا، كانت تواجهها صديقتي بالضحك حد الدموع. أود أن أخبركم أنني أشكر الله كثيراً على نعمته، كوني ترعرعت في بيئة أسرتي الجادة وهو ما أثر على نهجي في الحياة، وما سأسرده الآن ليس اعتراضاً على النمط الجاد في تربيتي، إنما محاولة لعرض ما يجول في خاطري في كثير من الأحيان من رغبة في استكشاف الجانب الهزلي في كل الأشياء المحيطة بي، مهما بلغت درجة جديتها، أو حتى قسوتها الموجعة.
بدأت في استيعاب هذه الرغبة في الاستكشافات بعدما تحررت من أغلب مسؤولياتي، فحسب ما أعرفه عن نفسي جيداً، لم أكن لأكون هزلية تجاه مسؤولية ما، مهما كانت ضئيلة. أتعبني هذا الأمر كثيراً، رغم أن الواقع يؤكد على أن الحياة برمتها خليط سحري من كل التناقضات، وما نصادفه في حياتنا مهما بلغ من جِد، إنما هو في حقيقته يجمع متناقضين في آن واحد عبر توليفة مثيرة فيها من مشاعر الألم المضحك، الذي يحتاج إلى من يصفه بعبارات تظهر الشقاء بشكل يدعو للفكاهة، وجملٍ تسخر من كل شيء بوقار! إنه فن إعادة اختراع الأشياء المقيتة وإيجاد حالة جمالية في كل ما هو مزعج أو منفر أو حتى مؤلم.
إنه فن السخرية من الواقع كوسيلة دفاعية وحاجة علاجية ملحة، وضمان لاستمرار القدرة على تحمل الحياة. فيأتي التهكم المصحوب بالنكتة ليعيد اختراع أسماء سقطات البشر، لتحصل على مسميات جديدة مواربة للحقيقة، مجملة للواقع المرير، مسميات تخبرنا أن ما عبرنا عليه الآن من ألم، إنما هو مؤقت وعابر وفي باطنه هزل يدعو للسخرية، فلا داعي للبكاء عليه طويلاً. إنها الكوميديا السوداء، التي تعيد إنتاج الواقع بصيغة أدبية أنيقة، وبأسلوب مرح يجمع الجد بالهزل، في مفارقة صارخة متسلحة بالتهكم والضحك. أعود لصديقتي وأحوال عائلتها وأدعو لهم بالسعادة، وأقول في نفسي: كان ذلك أفضل ما يمكن أن ينتهجوه، فأن تهذي ضحكاً على ألمك، خير من أن تصاب فعلاً بالهذيان.