كشربة الماء اسمك يملأ فمي،  وأشعر وأنا أمر في لواعج فريدة أنك خلقت من أجلي، وأنني إذ أحن إلى خبز يديك فإنما هي مشاعر الطير للشجرة، وهي حنين الجفون لأحلام الطفولة.
مذ إن غادر الطفل الكبير بيت الأمومة، وهو لم يزل يحمل حقيبة الذاكرة، ويتأبط تغريدة الليل وتحت جنح الفانوس المعلق في أحشاء الخيمة  يرى ما يراه المتأمل لنجمات تحوك قميص الضوء عند خاصرة السماء العالية.
اليوم وعند المساء، حيث لبس الشفق معطفه البرتقالي، وقفت عند باب المطبخ المطل على أفق العالم الرمضاني، فإذا بالصورة البهية تقفز عند جفنين متعبين بهت وبقيت أتأمل المشهد، إنه بحق مشهد روحاني يحمل في طياته رائحة ثوب تلك المرأة السامية وعطر يديها مضت دقائق، وأنا أعيش حالة حلم وأصوات من حولي تحوم كأنها أزيز ذبابات النحل حاولت أن أجلي الصورة،  وأخفي عن عيني عناوين عريضة  لم تزل تحتفظ برونقها على سبورة العمر لم تزل الصورة، وكما أنها رسمت في التو.
حاولت أن أغير المكان، وأذهب إلى مكان آخر،  وصلت عند باب المنزل  المطل على الشارع العام  هناك انتشرت رائحة الزرع ممتزجة بعوادم السيارات  شعرت أنني يجب أن أكسب الوقت،   وأقود حملة ذكريات بدت لي كأنها قوافل صيف متجهة إلى موارد المياه  شعرت أن الماضي حتى إن كان لا بد وأن تشوبه بعض المنغصات  فهو في عيني الطفل الكبير حقل مزدهر بأنواع الأشجار  والورود أحسست أن الماضي مرتبط بالطفولة، ولذلك فهو جميل كما أنه ملتصق بالعلاقة الحميمية مع الأم،  فلذلك فهو جميل  ودافئ  يفيض بصور حالمة تداهم الطفل الكبير في ساعات روحانية  معبقة  بعطر فناجين القهوة المسائية  وابتسامات أنثوية لها مهارة الوضيحي،  ورشاقة الجياد ورفرفة الفراشات، وهي تمتص الرحيق .. وفي رمضان تبدو الذاكرة مثل جدول الماء  تفيض عذوبة  مثل موجة البحر  تحرك مكامن المحيط الداخلي، مثل سعفة تمازح أجنحة الطير  الغافي بين أعواد العش.
في رمضان ربما كل الصور تتلاشى وتغيب إلا صورة الأم، لأنها صورة هي في الأصل مرتبطة بمضغة القلب لأنها صورة تحاكي أزمنة مختلفة، فلذلك لا تختفي مهما مرت الأيام  وتراكمت في الذاكرة صورة ومشاهد تبقى صورة الأمل هي العنوان الرئيس لرواية النشوء والارتقاء.
في هذا المساء  عشت وقتاً استثنائياً،  لأن الصورة نقلت لي وجهاً أعشقه  هو ذلك الوجه الذي استمر يحدق في عيني كلما رمشت الجفون بدمعة ساخنة  في هذا المساء، عشت لحظات استدعيت فيها كل التفاصيل  لرواية الطفل الكبير مع أمه.
فشكرت رمضان، وأمعنت في شكر أمي التي لا تفارقني صورتها.
وبعد تفكير عميق فهمت لماذا في مساءات رمضان تحلو صور الماضي، وأيقنت أن الأمر متعلق  بصفاء الذهن وخلو العقل من الضجيج، كما هو في الأيام العادية،  والأهم من كل ذلك أن في رمضان تقفز الصورة الأحلى، وهي صورة الأم، وهي ترتب مشاعر صغارها بطعام الفطار،  ولا شيء يتم استيراده من هذا المطعم أو ذاك.