لا يملك العالم اليوم مورداً أكثر أهمية من الوعي الجمعي ليحمي نفسه. وفي ذلك يصعد «المعنى» مكوناً رئيسياً في تنظيم الأمم والجماعات. وما بذلته الدول المركزية وعلى مدى مئات السنين من جهود جبارة وموارد كثيرة في بناء المؤسسات وتطوير التشريعات وتطبيقها، لم يعد يفيدها كثيراً، أو على نحو حاسم من غير فكرة جامعة للناس، وليس يدفعهم أكثر من ذلك للعمل والبذل لأجل السلامة العامة والوقاية من الخطر. 
قوة «المعنى» الجديد ليست تلقائية، ولا عاطفة جياشة تجمع الأمم وتحركها، كما كانت في تاريخها، توحدها الكوارث والمهددات والعداوات والحروب والصراعات، ولكنها معرفة معقدة واهتمام عميق بالعالم الواحد، وفي عبارة أخرى، فإن ما كان يختص به أهل العلم والمهن المتقدمة يتحول اليوم إلى ثقافة عامة يجب أن يدركها ويتمثلها كل إنسان، وصار الفرد في مواجهة متطلبات أكثر تقدماً وصعوبة من المراحل السابقة؛ عندما كانت المؤسسات تدير وتنظم معظم، إن لم يكن جميع، ما يحتاجه الإنسان، فالتعليم من بعد يضع التلاميذ والأسر في مواجهة مصيرهم ومستقبلهم، دون دور كبير للدول والمجتمعات ومؤسساتها وتشريعاتها، وليس لدى الإنسان، ومنذ مرحلة مبكرة من عمره، سوى أن يكون قادراً على تعليم نفسه وحمايتها وتهيئتها لمسؤوليات وأعمال وخبرات وتجارب جديدة ومعقدة، وفي استخدام التطبيقات المؤسسية والتسويقية يحتاج الإنسان إلى خبرة ومهارات فنية وعلمية، ليدير وينظم أعماله واحتياجاته اليومية ومصالحه.
وعلى سبيل المثال، فإن معظم الخدمات البنكية التي كان يقدمها موظفون تحولت إلى ذاتية وآلية. ويتواصل كل إنسان مع العالم في شبكات التواصل، كما لو أنه (يجب أن يكون) صحفياً محترفاً يملك الكفاءة المعرفية والمهارات الفنية، كما يجب أن يحيط بالأبعاد والمسؤوليات القانونية مثل محامٍ، ويتابع شأنه الصحي مثل طبيب.
ومتوقع بالطبع، بعد سنوات قليلة من الممارسة الجمعية والشاملة للحواسيب والتطبيقات والأعمال والمسؤوليات، أن يجري تحول كبير في المحتوى المعرفي والتعليمي الذي يقدم في المدارس والفضاء العام، ليكون في مقدور كل إنسان أن يتزود بالمعرفة والمهارات التي تمكنه أن يعمل بنفسه ولنفسه، وأن يداوي نفسه بنفسه، ويعلم نفسه بنفسه، ويحيط بالتشريعات والقواعد والعلاقات المؤسسية والقانونية التي تمكنه من الحصول على الخدمات العامة والتجارية، وينجز معاملاته لدى المؤسسات الحكومية، مثل دفع الضرائب ومراجعتها، وتنظيم الحسابات المالية، والحصول على الوثائق اللازمة، وهكذا، فإن المهارات والمسؤوليات والمعرفة التي كان ينفرد بها الموظفون والمهنيون، تتحول إلى حكمة ومعرفة شائعة. 
وفي شيوع المعرفة وتطبيقاتها تتحول المرافق نفسها إلى المشاعية والاستخدام والتنظيم الجماعي، يمتد ذلك إلى مرافق وقواعد الأمن والدفاع والتمويل والاتصالات والطاقة، لتتحول مثل الطرق والجسور والماء والهواء والساحات والفضاءات العامة.
وكما تحولت ويكيبيديا إلى موسوعة شاملة وهائلة تنظم نفسها بنفسها، تتحول أيضاً مئات المؤسسات والأوعية المعرفية والتعليمية والخدماتية إلى التنظيم الذاتي والجماعي، بل والمشاعي.
وبالطبع، فإن هذا الوعي الشامل لن يحلّ مرة واحدة، أو في فترة زمنية قصيرة، كما لن يستوعبه الناس ويتكيفوا معه في سهولة وسرعة، فقبل ذلك سوف يعيشون في مرحلة انتقالية مليئة بالآلام والفوضى والخسائر، كما ترافقه جرائم وتجاوزات جديدة غير مألوفة، ولكن التاريخ الإنساني يظهر أن المحصلة النهائية للتفاعلات والصراعات والخسائر والمكاسب، هي التقدم والتكيف والاستيعاب، وليس لدينا وسائل لتجنب ذلك سوى العمل المتراكم المليء بالتجارب والأخطاء، والأكثر أهمية وخطورة أنه لا خيار لنا سوى أن نخوض هذا العالم الناشئ والمجهول، لأن تجنبه أو الهروب منه سوف يكون أكثر ألماً وخسارة.