يمكن النظر إلى اللغة باعتبارها ليست مجرد أداة تعبير، أو وسيلة تواصل، إنما هي مدخل فهم، واقتراب رؤية، ومنهج دراسة، وأداة تحليل، وهي مسألة صارت من المساقات، التي تهتم بها الدراسات العلمية الحديثة في مختلف العلوم الإنسانية، وكذلك في بعض جوانب العلوم الطبيعية.
وهذه الرؤية النقدية امتدت إلى شرح وتحليل الدور الذي تمارسه اللغة في فهم الواقع، ومن ثم الارتقاء به، أو تطويره، وهو ما بان بوضوح شديد في فلسفة إرنست كاسيرر، التي تقوم على أن اللغة هي مفتاح قوي لفهم كل شيء، الموضوعي والذاتي، وهي القاسم المشترك بين فعاليات طبيعية وبشرية وحضارية عدة، وكذلك رؤية «فتجنشتين» في هذا الخصوص، حيث قام هذان الفيلسوفان، الأوروبيان بربط اللغة بالسياق القائم وقتها، والذي كان يتطور فيه النظر إلى اللغة، من حيث مفرداتها وصوتياتها وتركيبها ووظائفها، والدور الكبير الذي تلعبه في حياة البشر.
وهناك عدة اتجاهات في فهم اللغة وتوظيفها، الأول يتعامل معها كعلم في حد ذاتها، والثاني يعتبرها أداة أدبية في مختلف تشكلاتها البليغة، بما دفع البعض إلى القول إن الأدب هو تشكيل جمالي للغة، والثالث يعتبرها وسيلة للتواصل حتى في العلوم الطبيعية والرياضية، فإذا كانت الفلسفة باعتبارها نظرة عقلية فاحصة للعديد من قضايا وموضوعات اهتمامنا، فإنها لا يمكن بطبيعة الحال أن تتجاهل موضوع اللغة، وإذا كانت الفلسفة قد اتجهت إلى العلم فقدمت فلسفة العلم، واتجهت إلى التاريخ وقدمت فلسفة التاريخ، واتجهت إلى الفن وقدمت فلسفة الفن، فإن اتجاهها إلى اللغة، لا يمكن أن يكون اهتماماً هامشياً عرضياً، بل هو اهتمام أصيل جوهري، ما يجعلها الظاهرة الأكثر ارتباطاً بوجودنا الإنساني، فنحن جميعاً نتكلم قبل أن نصبح علماء وفلاسفة وأدباء وفنانيين ومهنيين وعمال وخلافه.
وهناك صراع بين النزعتين الاسمية والإنسانية أو الاجتماعية في حقل اللغة، إذ ترى الأولى أن اللغة مجرد صورة للعالم، لأنها تعطي المقابل للكلمات والأشياء والموضوعات، وبذا فلا مجال للبعد الإنساني والتفاعل الاجتماعي في تحديد المعنى، أما الثانية فترى أن الكلمات ليست هي التي تحدد معنى الأشياء، وإنما البشر أنفسهم هم الذين يفعلون هذا عبر الكلمات، ومن هنا فإن العبارة لا تمثل العالم، إنما البشر حين ينطقون العبارات، ومن هنا فالناس هم الذين يصنعون اللغة، ولا تصنعهم اللغة.
هناك دور، من دون شك، للغة في صناعة وترسيخ وجود الأمة الواحدة، حيث إن وحدة اللغة إن كانت لا تُوجد الأمة من عدم، وتقررها، فإنها ضرورة لخلق تماسكها، لكنها يمكن أن تكون دافعاً لتعزز النزعة التوسعية مثلما رأينا في تجربة ألمانيا النازية، التي كانت اللغة واحدة من أسس تبنيها لنظرية «المجال الحيوي» إلى جانب وحدة السلالة، وهي نظرية تعني النهم إلى ضم كل الأقاليم التي تنطق بالألمانية أو ينتمي سكانها إلى العرق الآري، ثم إذابتهم في أمة لها قوام متماسك، لكن اللغة لا تصلح وحدها لتكوين أمة، وإلا ما قامت أمم يتحدث المنضوون تحت لوائها عدة لغات ولهجات، وإذا كان من الضروري أن تتحدث الأمة لغة واحدة، فإنه ليس من اللازم أن تكون اللغة شرطاً وحيداً وصارماً لقيام أي أمة، وربما يكون الأهم هو الأدب الذي يبدعه متفردون منها، ليعبر عن روحها، ويحفظ مثلها العليا.
على هذا الأساس نجد أن اللغة محدد رئيسي لا يمكن تجاهله في العلم والسياسة وغيرهما، ولا يجب أن نقتصر في نظرتنا إليها على أنها مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار والمواقف، إذ إنها في حد ذاتها موقف وفكرة، لا يمكن نكرانها، وهي كذلك نسق أو منهج أو حتى أداة للفهم والتفسير، والإحاطة لكثير من المسائل والظواهر والأفكار والقيم والاتجاهات، وبذا تكون مدخلاً أو اقتراباً لفهم العالم.